ثلوثية الدكتور / محمد بن عبد الله المشوِّح
11-21-2011 03:37 PM
بين يدي الثلوثية :
إني امرؤ مولع بالثقافة , أتبعها حيث حلت , وأسير معها أينما اتجهت , حتى لو ركبت متن السحاب , وحلقت في أرجاء الفضاء , وأوغلت في الكهوف والأدغال, وجالت في الصحاري والقفار .. فهي الظل في رحلة الحياة , والسخاب الذي ليس عنه مندوحة , والمعين الذي ليس عنه غناء .
وقد أقمت في القاهرة عشر حجج , لم يبلغني خبر ندوة , في جمعية أو منتدى أو مناقشة رسالة : في الأزهر , أو جامعة القاهرة , أو عين شمس , إلا طرت إليها وهرعت نحوها , كالظامئ الذي أفرى كبده الظمأ , والمسافر الذي كوته سياط الهجير .. طرت إليها لأرتوي من تبادل الآراء , وأنتشي بوجهات النظر , وأستمتع بصراع الأفكار.
وحين كنت في إحدى المدن في المملكة , قبل أربعة عقود , فكرت في الدعوة إلى إقامة " صالون ثقافي " في بيت أحد النخب الثقافية , يضم المهتمين بالشأن الثقافي .. ولكن الوعي الثقافي بالمدينة آنذاك , لم يكن مؤهلاً , والمثقفين , وموارد الثقافة ما تزال محدودة .
وقد جاءت الأندية الأدبية بعد ذلك , ففتحت قنوات الري للظامئين , وضخّت نسغ الثقافة في أردية المجتمع , وتدفّقت ألوان جديدة من الفكر في شرايين الشباب , وأذكر أنني لم أتخلف عن محاضرة واحدة , في نادي تلك المدينة , حتى قد اعتذرت من خاطب لابنتي ذات يوم , لأنه صادف موعد محاضرة في النادي , وحين قصصت ذلك على رئيس النادي ضحك ملء فيه .
ولما هبطت مركبتي في الرياض - هذه المدينة العامرة , بل هذه العروس الفاتنة - وجدتها كالحديقة الغناء , تتعدد فيها الجداول والخمائل , وتنتشر فبها الطيور المنشدة والمغردة , وتونق الأزاهير بألوانها الزاهية , وعبقها الفواح .. تعج بالحركة والثقافة والمنتديات , كما لا توجد في مدينة أو عاصمة عربية أخرى - على معرفتي بها جميعاً .. وتذكرت عندما كنت في مصر , وكنا نطالع الصحف المصرية آنذاك , فنجد فيها باباً تحت عنوان : " أين تسهر هذا المساء ؟ " يعرض عليك قائمة بأسماء المسارح ودور السينما , وما فيها من المسرحيات والأفلام , لتنتقي منها ما يساعدك على قضاء ليلتك , والاستمتاع بوقتك .
وأنت في الرياض .. تستطيع أن تسأل صاحبك أو صديقك : " أين تسهر هذه الليلة ؟ " وأي المنتديات الثقافية والأدبية والفكرية ترتاد ؟ .. وإنك لواجد في كل ليلة , منتدى أو أكثر إجابة على سؤالك , وما عليك إلا أن تختار ما يلائم رغبتك , ويوافق ميولك .
وفي هذه الملتقيات .. يأتلف شمل لفيف من عشاق الفكر , ورواد الثقافة , وصناع الأدب , من كل المشارب والأذواق , في روح اجتماعية , تتسم بالأخوة والحميمية , تضم الشباب والشيوخ , يتحدثون في موضوعات وقضايا عدة , ويفسح المجال لتبادل وجهات النظر, بما لا يكاد يصدقه المرء , وهذا جانب يجهله العالم الخارجي عن الحياة في المملكة , وتشكيلها الفكري والثقافي ..
أقول ذلك لأسجل هذه الظاهرة الصحية من الوعي الاجتماعي , والسلوك الحضاري , والنضج الفكري في تواصل الأجيال , وبناء المجتمع .
ندوة المشوِّح :
هذه الندوة علامة بارزة في المشهد الثقافي , على الرغم من حداثة سنها , إذا ما قيست بندوات قاربت مسيرتها نصف قرن من الزمان , ولكن تقويم الأشياء لا يتوقف على عمرها في عدد السنين , وإنما بالإنجاز الذي تنجزه , والمنتج الذي تفخر به , والجدوى الاجتماعية والفكرية التي تقدمها للناس , وربما اكتسبت هذه الشخصية من خلال عميدها الدكتور محمد المشوِّح وعلاقاته , ومن خلال اختيار ضيوفها وتميزهم , ومع التسليم بأن لكل ندوة مذاقها الذي تنفرد به , واتجاهها الذي يحدد مسارها .. فهي في الوقت نفسه , ترضى ميول فئة من الرواد , يتعشقونها ويترددون عليها.
تنعقد ندوة المشوح مرة كل أسبوعين , يوم الثلاثاء , فيما عدا العطل الرسمية وموسم الصيف , وقد تتخلف من وقت لآخر عن موعدها لارتباطات أخرى .. وقد دلني عليها أحد الأصدقاء الأوفياء , المصابين مثلي بحب الثقافة , ممن يعانون قلق الحوار , واستطلاع رأي الغير , ويستمتعون بالحديث أو الاستماع إلى الشخصيات البارزة ..
ولكي أكون منصفا في الحديث : دعني أتحدث بحرية تامة , كما نتحدث في الندوات , حين لا يقول لك أحد توقف , أو ممنوع الدخول , وهذا يقتضي أن أتناول أربعة جوانب سأعرضها فيما :
1- ظاهرة الترف والثراء :
يتملك الزائر لهذه الندوة , من أول وهله .. مشاعر مختلفة , لعل في مقدمتها : الشعور بالتردد والتهيب , وتأخذه – باسم الله ما شاء الله - روعة المكان , وفخامة المظهر , بدءاً من الحي الذي تقع فيه , ومن الشارع المزدوج الفسيح الذي يحاذيها , ومدخل القصر الذي يسمح للسيارة أن تدخل حتى البوابة الداخلية , في حركة دائرية يتوسطها تشكيلات فنية , ونافورة , وأشجار يانعة جميلة .
ويحس الزائر عندما يدخل , كأنما أعد القصر لهذه الغاية , وفي خدمتها .. فهو يضم جناحين كبيرين , أحدهما إلى اليسار , حيث قاعة الاستقبال , التي تعقد فيها الندوة , وقاعة إلى اليمين , حيث صالة الطعام .. وبينهما المنافع المختلفة , والقاعتان من الامتداد والاتساع , بالقدر الذي يحتمل طوارئ الحاضرين , كثرةً أو قلةً , وأنواع الرواد , ومستوياتهم , وهو بهذا الرسم الكروكي الذي وصفته لك , يحقق أغراض الندوة , على أحسن وجه , وأيسر طريقة , وبصورة سلسلة وعملية.
وخلف القصر ملاحق تراثية .. تنقلك من عصرك الذي تعيشه , وبيئتك التي ألفتها , ومجتمعك الذي تعرفه .. إلى أعماق التاريخ , ومضارب البادية , وتقاليد الصحراء , وتراث الآباء والأجداد .. حتى لو أصغيت لأوشكت : أن تسمع ثغاء الماشية , وجذب الأرشية , ومتح المياه , وأصوات الرياح بكل فج , وتتدفق عليك فناجين القهوة العربية , وينطلق عبق البخور , وتتصاعد ألسنة اللهب من موقد النار التقليدي , والمدخنة والكور, وكل اللوازم , التي تدعوك أن تتمثل تلك الحياة الأصيلة الممتدة الجذور إلى : مخ الحياة العربية , وصلب تكوينها .
ولا أحدثك عن المائدة الفاخرة , التي يشرف على إعدادها أحد أشهر المطاعم في مدينة الرياض , والتي يدعى إليها الضيف والرواد بعد الندوة , والتي لا تقدم مثيلاتها إلا لكبار الضيوف الأعزاء , الذين طالت غيبتهم عنا , ولقيناهم بعد قنوط ويأس .. يقول بعض الناس : هذا كرم وأريحية , ويقول آخرون : هو أبهة ووجاهة , وأياً كان الأمر .. فهو صورة من صور هذه الندوة , يريد صاحبها أن تتسم بها وتظهر عليها .
2- الجانب الاجتماعي :
من المظاهر الاجتماعية , التي تتمسك بها الثلوثية , ما تتمسك به من التقاليد والعادات العربية الأصيلة , التي تبرز في روح المساواة بين القادمين إلى الندوة , فلا تمييز بين الناس , ولا تفاضل , ولا محاباة .. فأنت تجلس في المكان الذي ينتهي بك إليه حضورك , فلا تدفع عنه , أو تصرف , طالما جئت في الوقت الذي يسمح لك بالجلوس فيه , فإذا امتلأت الأرائك المحيطة بجدران المجلس الفسيح , استقدمت الكراسي الفاخرة , بالقدر الكافي , وحسب الوصول كذلك .
والحاضرون عادة : فئات شتى , من كل شرائح المجتمع .. تجد بينهم الطالب وأستاذ الجامعة , لكن النخبة الثقافية في الغالب هي الأبرز , وقد أخذت الندوة شهرة استقطبت بها كثيراً من الشخصيات الاجتماعية اللامعة , وأصحاب المراكز الوظيفية المرموقة , وتسود الحاضرين علاقات الود والمحبة , والاحترام المتبادل , فيصافح الناس بعضهم بعضاً , ويتبادلون التحية , وبجدد أحدهم العهد بإخوة له وأصدقاء , ممن طال غيابهم أو بعدت ديارهم .
والأوضح من هذا وذاك , في المشهد الاجتماعي : تلك الصورة التي تثب إلى الذهن , وتقفز إلى الذاكرة , وترتسم أمام العين , إنها رؤية صاحب المنتدى أو أحد أبنائه , يجلس في مقدمة قاعة الاستقبال .. يرحب بالقادمين , ويبش لهم , ويصافحهم ويتقدم بهم خطوة أو خطوتين داخل القاعة , ليعرف الموجودين بالقادم الجديد , وليس من شك في أن القادم , يعتريه بذلك , قدر كبير من الارتياح , بحسن الاستقبال وطيب اللقيا , وأدب الضيافة , ولا يحس أنه متطفل , أو غريب , أو طارئ على الندوة وأهلها .
ولكل من حضر الندوة حق المطالبة بالتعليق , أو المداخلة , أو السؤال , بصرف النظر عن جنسه , أو مستواه .. وقد تكون بعض المداخلات , مقحمة على الموضوع أو استعراضية , أو مكتوبة قبل الحضور , أو مسفة , ومع ذلك لا يطلب من صاحبها التوقف أو السكوت احتراماً لمشاعره , ولعله يدرك خطأه بمقارنة قوله بقول غيره.
3- الجانب الثقافي :
تستولي عليك منذ دخولك إلى هذه الجامعة , الروح العلمية , وتستبد بك أمواج الثقافة , فيشد بصرك صور الكتب - المفتوحة والمغلقة , المنفردة والمكدسة - المرسومة على سعة جدران قاعة الاستقبال , بألوانها الجذابة .. وهي تضعك تحت تأثير إيحائي , بما ستكون عليه الندوة , وما يتطلبه جو اللقاء , وتطلق مخيلتك في فضاءات الثقافة التراثية والمعاصرة , وتستحضر أرفف المكتبات , وتستشعر حضور القدماء , الذين أفنوا أعمارهم في الكتابة والوراقة .. وإذا سقط نظرك من علياء الجدار إلى أرض القاعة , وجدت المناضد الداخلية التي تنتشر أمام الحاضرين أيضاً أخذت أشكال الكتب التراثية , بعضها فوق بعض .
ولعمري إن ذلك فوق تأثيره على البيئة الثقافية في المجلس , وعلى الحاضرين .. يعكس هيام هذا الرجل – عميد الندوة - بالعلم والقراءة والاطلاع .. ولله درك يا أبا عبد الله : كم يسكن الكتاب في فكرك ؟ وكم يملأ من حياتك ؟ وكم يسيطر عليك ؟ وكم يستولي على اهتمامك ؟ فأنت عاشق .. مدنف .. ولهان , حتى كأن الحياة كتاب , والمدينة موضوع , والشوارع سطور , وهذا يذكرني بالعقاد - رحمه الله - حين لفظ أنفاسه الأخيرة , فوقع الكتاب مد يده , وقال عنه بعض أصدقائه : لن تطيب الآخرة للعقاد إذا لم يجد فيها مكتبة.
أما ضيوف الندوة المتحدثون , فهم أشكال وأنواع وثقافات مختلفة .. منهم العالم , والأديب , والناقد , والاجتماعي , والإعلامي , والسياسي .. يجمعهم جميعاً أنهم قامات رفيعة , وقمم شاهقة , وجبال شماء , ومن الملاحظ أن الحديث : يتم في شكل مسامرة , يتسم بالمباشرة والعفوية , والارتجال والتلقائية .. ويندر أن يأتي شخص ليقرأ من مذكرة أو ورقة معدة , وهذا يجعل التفاعل أوفر , والانجذاب أشد , واللقاء أكثر حيوية .
تبدأ الندوة عادة : بالقرآن الكريم , ثم كلمة عميد الندوة , ثم تعريف بالضيف , ويترك له المجال بعد ذلك ليلقي ما في وفاضه , ثم تأتي الأسئلة والمداخلات , ويقدم في نهاية اللقاء للمحاضر درع تذكاري بهذه المناسبة .
4- وجهة نظر :
وما دامت هذه الندوات تعلمنا الحوار , وقبول الآخر , وسعة الصدر للرأي المخالف , وتكسبنا الجرأة في طرح ما نعتقد .. فأرجو أن يسمح لي بإبداء بعض الملحوظات هنا , إبراءً للذمة , وأداءً للأمانة :
• أوافق الذين يدعون إلى الحد من المبالغة في أنواع الطعام الذي يقدم في الندوة , إبعاداً للإحراج , وتجنباً للمظهرية , واختباراً لنوايا الحاضرين , وتوجهاتهم .. فالندوة تهدف فيما تهدف إلى غرضين : ثقافي واجتماعي , وهما يتحققان دون هذه الصورة الجارحة من الكرم فيما أعتقد .
• أنا أتردد على الندوة منذ ست سنوات , وقد لاحظت في المدة الأخيرة , ولا سيما السنتان الأخيرتان : تحولها في أنواع الضيوف, إما لإبراز الضيف , وإما لتحقيق ما يرضي بعض الأذواق فقط , أرجو أن تكون الشخصيات المدعوة ذات بريق اجتماعي , ولمعان ثقافي , ووزن فكري وأدبي , مما يحرص الجمهور على مشاهدتها, ومحاورتها , والاستماع إليها , والاستمتاع بها .
شكراً لمن فكر في السماح لرواد هذه الندوة , بالتعبير عن آرائهم .. وشكراً لمن يبذل ماله , ووقته , ويفتح داره , للناس جميعاً .. وشكرنا لا ينهض بمكافأته , فما جزاؤه إلا من عند الله . . وأرجو أن تكون هذه العبادة . . من العبادات المقبولة , بإذنه تعالى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|
خدمات المحتوى
|
أ . د محمود بن إسماعيل عمار
تقييم
|