ثلوثية د. محمد المشوح
في



الأخبار
دمع المآقي في رثاء الشيخ سليمان الخراشي
دمع المآقي في رثاء الشيخ سليمان الخراشي
03-03-2022 11:48 AM
دمع المآقي في رثاء الشيخ سليمان الخراشي


المتوفى صباح يوم الأربعاء (29/ 7/ 1443هـ)، الموافق (2/ 3/ 2022م).

في عام ألف وأربعمائة وسبعة عشر للهجرة (1417هـ) التقيت في منزل الأخ يعقوب الحافظ في حي النخيل بالرياض بالأخ الشيخ سليمان الخراشي بعد صلاه المغرب، فكان لقاء وديا تبادلنا فيه مشاعر مشتركه تنبئ عن صداقه مبكره بيننا، استشارني بعدها بأيام في موضوع عائلي خاص كان فاتحة علاقة او صداقة دامت واتصلت ونمت حتى رحيله رحمه الله. لم يكن الشيخ سليمان الخراشي طارئا على مربط العلم وأهله، بل بنى نفسه وأصلها منذ نعومة أظفاره، فجالس العلماء وأخذ عنهم، وبنى مهاراته العلمية عبر قراءاته المبكرة والمتواصلة و المتعددة والمتنوعة، والتي سوف يظهر بيانها لاحقا في هذه المقالة.
لقد ولد رحمه الله عام ألف وثلاثمائة وخمسة وثمانين للهجرة (1385هـ)، ثم التحق بالجامعة، وتخرج من كلية الدعوة ثم عمل في التربية والتعليم حتى تقاعده المبكر وتفرغه للبحث والتأليف، ويعتبر -رحمه الله- من المكثرين في التأليف حتى بلغت مؤلفاته ما يزيد على ما يزيد على خمسين مؤلفا، متنوعة في الردود على المخالفين، وملخصات لبعض الكتب وتعليقات.
كانت اللقاءات بيننا مستمرة، والتواصل دائم، نلتقي دوما مع السؤال المتكرر في كل أسبوع عن بعضنا، وكنا لا نتردد مع بعض في السؤال عن بعض المعلومات والآراء التي أجد عنده أو يجد عندي قولا، أو رأيا، أو معلومة مفيدة، ومع اهتمامه -رحمه الله- بالجوانب العقدية وردوده على أهل البدع والفرق المنحرفة إلا أنه كان ذا عناية أخرى دقيقة بالتراجم والتاريخ، ونتج عن هذا الاهتمام العديد من الإصدارات التاريخية التي كانت سببا رئيسا في علاقة عملية بيننا من خلال دار الثلوثية، ومن ذلك أنه في عام ألف وأربعمائة وثلاثين للهجرة (1430هـ) أخبرني أنه يعكف على نشر تاريخ ابن غنام عبر طبعة جديده تملأ الفراغ الذي يحيط بالكتاب خصوصا مع عدم توفر طبعاته، فاستعقد همته وقام على الكتاب عبر جهده الذي بذله: "وبعد مشاورات اتفقنا على نشر تاريخ ابن غنام عبر دار الثلوثية فنال -بحمد الله- رضى الجميع وقبولهم"، ورغب أن يكتب: "اعتني به"، وليس "تحقيق"؛ حيث قال لي: "لست محققا للكتاب لكنني علقت على بعض المواضع". وكتب مقدمة وافية عنه.
فكان عمله وعنايته بتاريخ ابن غنام خدمة جليلة كبرى للباحثين المهتمين والمؤرخين حيث يقول في مقدمته:
" عزمت على إخراج هذا التاريخ المهم، معتمدا على مخطوطة الكتاب المحفوظة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعلى الطبعة الأولى الهندية، من خلال الاجتهاد في إخراج نصه كما أراده صاحبه، وصفه بطريقة فنية معاصرة، تيسر قراءته، مع تخريج أحاديثه، وتوثيق نصوصه، واستكمال سقط الطبعة الهندية، والتعليق على ما رأيته يستحق التعليق، دون إثقال للهوامش، ممهدا الطريق لمن هم أجدر مني من المتخصصين، مقدما بهذه المقدمات المناسبة؟ توطئة له :
١-ترجمة الشيخ حسين بن غنام رحمه الله .
٢-نقول مهمة عنه وعن تاريخه لثلاثة من الأعلام المعاصرين المهتمين بالتاريخ السعودي، وهم: الشيخ حمد الجاسر رحمه الله والدكتور عبدالله بن صالح العثيمين، والدكتور محمد بن سعد الشويعر وفقهما الله
٣-جانبان يستحقان الاهتمام في تاريخ ابن غنام؟
٤- مجموعة قواعد مهمة تتعلق بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية ، وخصومها، وفي ضمنها الإجابة عن شبهتين يثيرهما بعض المناوئين، ومن تأثر بهم، تتعلقان بما ذكره ابن غنام عن حال البلاد النجدية قبل دعوة الشيخ، وبالحكم على مخالفي الدعوة"انتهى .
ثم نفذت الطبعة، فقمنا بطبعة ثانية للكتاب عام ألف وأربعمائة واثنين وأربعين للهجرة (1442هـ) مع ما قام به من تصويبات وتصحيحات على الطبعة التي نشرت قبل أكثر من عشر سنوات، ثم قدم لي بعض الكتب الأخرى التي يرغب في نشرها عن طريق دار الثلوثية، وقمنا بنشرها -ولله الحمد- لقد كان -رحمه الله- مكثرا من التأليف، ولا يرغب في إحراج أحد من زملائه أو أصدقائه في دور النشر في الطباعة، فكانت كتبه مبثوثة لدى عدد كبير من دور النشر في الداخل والخارج، وكنت أمازحه وأقول له -رحمه الله-: هل لديك قرار يا أبا مصعب أن تنشر لدى جميع الدور العربية؟.
ولمودتي ومحبتي وصداقتي معه كنت أقول له: لا مانع لدينا من نشر أي كتاب لك، ومع ذلك فإنه كان ينشر لدى الاخرين ثم يطلب مني الشراء من هذه الكتب من تلك الدور، وأقوم بذلك استجابة له وتقديرا للجهد العلمي الذي يقوم بذلك في تلك الكتب، والقبول الذي تحظى به، ورغبه صادقه في تواجد كتبه في السوق السعودي، ولدي خصوصا في دار الثلوثية.
ومن المواقف التي عشتها معه أن كثيرا من المثقفين يسمعون عنه ولم يلتقوا به، وكانوا يهابونه من الردود التي توصف بالجادة بل والعنيفة كما يقولون.
فانبريت طوال سنين معرض الكتاب وتواجده الدائم في جناح دار الثلوثية أن يلتقي بأولئك الأدباء والمثقفين، ويشاهدوا لطفه وأريحيته التي تخالف قلمه، ولطالما قلت له مداعبا وممازحا: قلمك يخالف قلبك. وسميته مرارا: ميزان الخراشي؛ لأنه اتخذ سلسلة من كتبه لبعض المفكرين بعنوان "في الميزان" فكانت ممازحاتنا لا تتوقف.
ومن المواقف معه أنه اطلع على رسالة علمية عن منهج الملك عبد العزيز في استقطاب خصومه، مقدمة من الباحث عبد المجيد المحيميد، فطلب مني طباعتها، وشجعني لأهمية موضوعها فوافقته على ذلك، وقلت: سوف نبحث عن مؤلف هذه الرسالة، وقمنا بالبحث عنه حتى تواصلنا معه، ولم يتيسر حتى اليوم طباعة هذه الرسالة القيمة مع الأسف الشديد.
وفي عام (2019م) عرض علي كتابا للأخ خالد أبانمي عن الشيخ علي بن محمد آل أبانمي؛ إمام جامع الرويضة في زمن الدولة السعودية الأولى، وقال لي: إنه يرغب في طباعته عن طريق دار الثلوثية، فوافقت له فورا وتم طبع الكتاب.
وكنت إذا سافرت إلى معارض الكتاب إما أن نلتقي. كما في معرض القاهرة التقيت به عده مرات، أو يقوم بوصيتي على بعض العناوين لإحضارها له من المعارض.
وأذكر مرة أني سافرت إلى دبي وزرت مركز جمعة الماجد فعلم بذلك فاتصل وقال أطلب منه نسخة من مخطوط مذكرات بهجة البيطار وقم أنت بطباعتها فهي غنية .
لذا تراه لا يفوت فرصة سانحة فيها فائدة للعلم وطلابه إلا استثمرها والتقطها.
أذكر مرة أنه طلب مني نسخه من كتاب "عبد الله بن داود الزبيري" وكتابه "الصواعق والردود"، والذي قام بدراسته الأخ الدكتور حسان البديعان، و ونشرته دارة الملك عبدالعزيز لم يجد نسخة من الكتاب، وكان مستعجلا، فأعطيت نسخة مكتبتي الخاصة تقديرا ومحبة له، ثم أعادها لي -رحمه الله- بعد أيام.
ومن اللطائف أنه في الرابع، من شهر أكتوبر، من عام ألفين وعشرين (4/ 10/ 2020 م) اتصل بي -رحمه الله- وقال إني رأيت البارحة في المنام أني كنت أتحدث في مجلس الشيخ صالح آل الشيخ وهو ينظر إلي بإعجاب، فقال لي هذه الرؤيا، وكنت قبيل هذا الاتصال منه -رحمه الله- بيومين عند شيخنا صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وتحدث عنه طويلا وأثنى عليه، وقال: بلغه سلامي. فعجبت من هذا التوافق بينهما.
ثم أخبرت الفقيد أبا مصعب -رحمه الله- بثناء الشيخ صالح ومحبته وتقديره، فأعطاني بعض إصداراته الجديدة، وقال: ليتك توصلها للشيخ صالح، فأوصلتها إليه.
ثم في (30/ 10/ 2020م) اتصل بي وعرض علي كتاب تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد للشيخ إبراهيم بن عيسى، والذي قام بتحقيقه الأخ عبد الله البسيمي والدكتور خالد الوزان، وأبدى رغبة في أن تطبعه دار الثلوثية، فوافقت له فورا، وكان لا يتوقف عن الاقتراحات والنصائح في كل أمر يستدعي، وكان بيننا مودة لا تستدعي التوقف أو التردد.
أما في تويتر فكان إذا رأى شيئا حسنا شجع وأرسل وأثنى، وإذا رأى غير ذلك صوب ونصح.
أذكر في إحدى المرات كتب هو تغريدة حاده عن أحد المؤلفين الشباب، فهاتفته معاتبا، وقلت له: إنك قد قسوت عليه. فضحك واعتذر، و قال: لعلك تلطف الأمور بيننا.
كانت غايته النصح والصدق، وكان نقي القلب نقاء صادقا صافيا. كان الجميع يعرفون سجيته الودودة اللطيفة واجتماعيته التي تصل إلى كل الناس خلال اللقاء معه والجلوس إليه.
ومن الكتب التي نشرتها دار الثلوثية له؛ مناصحة الشيخ محمد بن عبد اللطيف ومحمد بن ابراهيم للعالم الهندي أبي الوفاء. رحمهم الله.
ثم كان اللقاء الأخير في معرض الكتاب؛ حيث كان اللقاء اليومي كل عام، وكنا نلتقي فنتبادل الآراء حول الجديد من الكتب، وفي معرض الرياض الدولي للكتاب الذي أقيم قبل أشهر افتقدته في اليوم الأول والثاني، ثم اتصلت عليه فلم يرد، ثم أرسل رسالة بالواتس وقال: سوف أحضر غدا؛ لأني مصاب بحالة، برد وحلقي متعب قليلا. وفعلا حضر وجلس عندي، وكانت ملامح جسمه ووجه في تغير كبير وسريع. فقلت له ممازحا: شكلك تبي تتزوج. وعملت تكميم. فضحك، وتمازحنا كعادتنا، لكنه جلس عندي طويلا أكثر من ساعتين، وكنا بعد الظهر، وبدأ يبوح بتفاصيل عن حياته وأسرته وأولاده وإخوته ويعددهم مع أعمالهم، وبدأ يتحدث في كل شيء، وكأنه يقول: في معرض الكتاب كان وداعنا.
وفعلا لم أره بعدها. تواصلت معه إثر ذلك، وكان آخرها قبيل لقاء الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في الثلوثية بتاريخ...
اتصلت به فور موافقة شيخنا، وكان أول شخص أبلغه وأدعوه لمعرفتي بالمودة المشتركة بينهما فوافق على الحضور، وكان هذا قبل اللقاء بأسبوع. وقلت له: سوف أذكرك. وقال: ما يحتاج، أنا حريص جدا على اللقاء مع الشيخ.
اتصلت به يوم الاثنين ولم يرد، وأرسلت له رسالة ولم يرد، ثم كان الانقطاع، وسألت عنه، فعلمت أنه مصاب بوعكة ويعاني من ذلك. فتألمت كثيرا وتتابعت اتصالاتي عليه، ولا ثمة مجيب.
ثم أتى النعي صباح هذا اليوم برحيله، لقد كان -رحمه الله- مغرما بالكتاب، محبا له، متولعا ب بالدعوة حتى أخبرني بعض الإخوة في العراق قبل أشهر أنهم وصلت إليهم كمية من الكتب عن طريق الشيخ سليمان الخراشي، ومنها كتبه.
ومثل ذلك في مصر وتركيا، وكان يحمل هما دعويا، وكان ذا نفس صالحة، زكية نقية، يباشر النصيحة للناس، ويتلقى منهم مثل ذلك.
لم يكن الشيخ سليمان الخراشي رحمه الله من القعدة أو من المحولقين .
بل نهض بمفهوم ومعنى الدعوة الذي استوعبه فكتب ونافح عن هذه الدولة المباركة والدسائس التي تكاد لها من الأعداء.
ورد الشبه والأوهام التي تقال وتروج .
كما تصدى لمن شكك أو دلس في دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب واعتنى بذلك.
كان يراسل ويكاتب كل إنسان توجس منه ريبة أو خطأ.
فيناصحه عبر رسائل الهاتف أو مكالمة أو يزوره.
وكانت مواقفه في هذا أكثر من أن تحصر أو تعد.
وهنا نتذكر أبيات لأبن دريد تصف حالنا في فقد أبي مصعب
لن تستطيع لأمــر الله تعقيـبا فاستنجد الصبر أو فاستشعر الحوبـا
وافزع إلى كنف التسليم وارض بما قضى المهيمن مكروهــا ومحبوبا
إن الـــرزية لا وفر تزعزعه أيدي الحوادث تشتيتـــا وتشذيبــا
ولا تفـرق ألاف يفـــوت بهم بين يغادر حبـل الوصــل مقضـوبا
لكن فقدان من أضحى بمصرعه نور الهدى وبهــاء العلم مسلوبــا
إن المنية لم تتلف به رجـــلا بل أتلفت علمـا للديــن منصوبــا
أهدى الردى للثــرى إذ نال مهجته نجما على من يعادي الحق مصبوبا
كان الزمان به تصفـو مشاربه فالآن أصبح بالتكدير مقطوبــــا
كــلا وأيامه الغر التي جــعلت للعـــلم نورا وللتقوى محاريبــا
رحم الله الأخ الصديق الفقيد الشيخ سليمان بن صالح الخراشي، وجبر قلوبنا على فقده، وجعل ما قدم في موازين حسناته، وربط على قلوب أهله وأبنائه وذويه.
لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.
وكتبه
أبو عبدالله
محمد بن عبدالله المشوح
29 / 7 /1443هـ
2/3/2022م

تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات301855


خدمات المحتوى


تقييم
1.00/10 (2 صوت)

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.