ضيوف الثلوثية 007 معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي |
007 معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي
11-04-2011 04:49 PM
تاريخ الأمسية : 17/ 7/ 1423 هـ عنوان الأمسية : سوانح وذكريات السيرة الذاتية ينتمي العبودي إلى أُسرة آل سالم المشهورة في (بُرَيْدَة)، وهي أُسرة عريقة قديمة يناهز عمرها في المنطقة أربعمائة سنة، ولهم أملاك موغلة في تاريخ (بُرَيْدَة) ترجع في بعض الأقوال إلى آخر القرن التاسع الهجري، ولهم أملاك قديمة وكيان مميَّز معروف يسمى «جورة السالم» بمعنى حارة السالم، وتقع إلى الغرب من قُبَّة رشيد، وإلى الجنوب من المسجد الجامع الكبير على بعد نحو مائتين وخمسين مترًا ( )، بل كانت لهم ناحية من منطقة (بُرَيْدَة) قبل أن تتخذ صفة مدينة واحدة، حيث كانت مجموعة محلات زراعية، وذلك قبل أن يحكمها آل أبي عليَّان( ). والدليل على قدمها أنها تفرَّعت إلى أُسر عديدة مقيمة في (بُرَيْدَة)، ثم تفرَّقت في أرجاء المملكة العربية السعودية، وهذه الأُسر هي: «السالم – الغصن – الهلالي – الصليهم – النصَّار – العبودي – الحسن – العبود – الشعلان – العضيب – الذيب»( ). ومنهم: علي بن ناصر السالم الذي ذكره المؤرِّخ ابن بشر في أخبار وقعة اليتيمة سنة 1265هـ، وأنه مِمَّنْ سأل عنهم أمير (بُرَيْدَة) عبد العزيز بن محمد آل أبي عليَّان، ظانًّا تخلفه عن المعركة هو وسعد التويجري، وهما أكبر أعيانها آنذاك، يدبروا أمرها في غياب أميرها فأعلمه أخوه عبد المحسن أنهما في عداد قتلى الوقعة. ومن أفراد هذه الأُسرة كُتَّاب وطلبة علم بارزون( ). أمَّا ولادة الشيخ محمد فقد كانت في 30 ربيع الآخر من سنة 1345هـ. أمَّا والد الشيخ محمد العبودي فهو ناصر بن عبد الرحمن بن عبد الكريم بن عبد الله بن محمد بن عبود (1292- 1370هـ)، وكانت أسرة الشيخ إلى عهد قريب يُعرفون بالعبود، ثم أضيفت الياء في عهد جده الأقرب عبد الرحمن. فقد كان الكثير من وصايا أُسرته وكتاباتهم ووثائقهم باسم العبود، وكان والده ناصر رجلاً شهمًا، يحفظ أخبار الناس وأحاديث العرب وقصص المروءة والشهامة، وكان ذا معرفة بالأُسر والأنساب على الرغم من أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب. ويشير الشيخ محمد ( )إلى أن والده التحق بأحد الكَتاتيب( ) آنذاك، إلا أنه لم يرق لـه حال ذلك المعلم، ثم ذهب به والده إلى البادية حيث عدة سنوات مع شمر بينما كان والده مع عقيل في العراق والشام. كما كان ذا عناية بالأدب، أما جده عبد الرحمن فكان شاعرًا عاميًّا، ويعزو الشيخ محمد عناية والده بالاطلاع، ومعرفة الأخبار، والعناية بالعلوم الدينية إلى خال والده عبد الرحمن الشيخ المعروف المُلاَّ عبد المحسن بن محمد السيف. وأُسرة آل سيف أُسرة عِلْمِيَّة متقدمة، برز منهم طلبة علم وكُتَّاب ومعلمون؛ من أشهرهم: القاضي محمد بن ناصر السيف، والشيخ ناصر بن سليمان السيف( ). أمَّا والدته فهي نورة بنت موسى بن عبد الله العضيب، وكانت قارئة للقرآن وللكتب، وهذا من العجب أن تكون الأمة قارئة والأب أُمِّيًّا. والعضيب كما سبق أحد فروع أُسرة آل سالم الكبيرة( ) وهم من ذُريَّة موسى بن زيد بن مبارك آل سالم، ومنهم: جده موسى بن عبد الله العضيب، وكان خاله عبد الله بن موسى بن عبد الله العضيب( ) هو نائب سوق بريدة الذي يرجع الناس في خصوماتهم ومنازعاتهم إليه وهو من الآمِرِينَ بالمعروف والناهين عن المنكر، وذا رأي وعقل وسداد، ومنهم الوجيه المحسن: موسى بن عبد الله العضيب( ). أسـرته: ذكرنا آنفًا أن الشيخ محمد العبودي تزوَّجَ مَرَّةً واحدة من ابنة خاله عبد الله بن موسى العضيب، وقد أنجب منها ثلاثة ذكور وخمس بنات وهم: (1) ناصر: يحمل بكالوريوس هندسة من جامعة القاهرة، ويعمل مهندسًا معماريًا في وزارة الأشغال العامة والإسكان. (2) خالد: يحمل بكالوريوس كلية العلوم الإدارية من جامعة الملك سعود، وماجستير من جامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، ويعمل في المؤسسة العربية لتنمية القطاع الخاص التابعة للبنك الإسلامي للتنمية. (3) طارق: يحمل بكالوريوس كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ويعمل في ديوان سمو ولي العهد. (4) د. فاطمة: تحمل دكتوراه في الرياضيات، وتعمل عميدة الأقسام العلمية في كلية التربية للبنات ولها مشاركات أدبية وفكرية منشورة. (5) د. لطيفة: تحمل دكتوراه في الاقتصاد المنـزلي، وتعمل في كلية التربية للبنات. (6) شريفة: تحمل ماجستير وتحضر الدكتوراه في الترجمة، لها إسهامات أدبية وقصصية منشورة. (7) مريم: بكالوريوس لغة إنجليزية. (8) ليلى: بكالوريوس في علم النفس. (9) مي: بكالوريوس كلية العلوم. أما إخوته فهم: 1- الشيخ سليمان بن ناصر العبودي: وهو سليمان بن ناصر بن عبد الرحمن العبودي، ولد في مدينة بريدة عام 1350هـ، تعلم في مدارسها، وأصاب عينيه رمد حاد أضعف بصره واستمر يعاوده. تلقى العلم على عدد من مشايخ بريده منهم: عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي، والشيخ صالح بن أحمد الخريصي، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي. التحق في معهد الرياض العلمي عام 1372هـ حيث اجتاز امتحان القبول فيه، والتحق بالسنة الأولى الثانوية، وعندما فتح معهد بريده العلمي عام 1373هـ التحق به حتى أكمل دراسته الثانوية، ثم التحق بكلية الشريعة في الرياض حتى حصل على إتمام الدراسة العالية فيها. عين فضيلته قاضيًا بمحكمة بريده الكبرى من دون أن يمر بمرحلة ملازم قضائي، وذلك تقديرًا لكفاءته للقضاء ولبث في محكمة بريده قاضيًا مدة خمس سنوات حيث ألح هو نفسه في طلب النقل من محكمة بريده إلى قضاء الأرطاوية في السر في 6/11/1390هـ ولم يناسبه المقام هناك فتم نقله إلى وزارة المعارف مدرسًا في معهد النور في بريده، لأنه يحمل شهادة في كيفية تعليم المكفوفين، فبقي يدرس فيه إلى عام 1410هـ، وأحيل إلى التقاعد لبلوغه السن النظامية. وتوفي عام 1415هـ عن عمر يناهز خمسًا وستين سنة، وفضيلته شاعر مجيد. 2- الشيخ عبد الكريم بن ناصر العبودي: وهو طالب علم، عمل في عدد من الوظائف الحكومية حتى تقاعد، كان آخر أعماله ووظائفه مديرًا للامتحانات في كلية العلوم العربية والاجتماعية بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، وهو أصغر إخوانه ولادته في عام 1356هـ كما أن للشيخ محمد ثلاث أخوات. العبودي في الكتاتيب في هذا الجو العائلي غير البعيد عن الأجواء العلمية نشأ الشيخ محمد، فلم تكن حِلَق العلم وأخبار العلماء والقضاة وطلبة العلم جديدة أو غريبة، وكان لوالده الأميّ النابه تأثير في تكوينه المبكر نحو الرغبة في التحصيل، ممَّا دفع والده أن يَزُجّ به ليى كُتَّاب، وهو كُتَّاب أو مدرسة الشيخ سليمان بن عبد الله العُمَري، الذي كان لـه إحدى المدارس الأهلية لتعليم الصغار القرآن والخط والحساب والقراءة، فتعلَّم في هذه المدرسة. وقد كان الشيخ سليمان العُمَري من طلبة العلم، قوي الحافظة، حافظ للقرآن، حسن الصوت، أمّ في عدد من المساجد، وتوفي سنة 1388هـ( )، ويشير العبودي إلى أنه دخل هذا الكُتَّاب وعمره لا يتجاوز خمس سنوات؛ وذلك لسببين: أولهما: رغبة والده في التعليم المبكر لابنه. وثانيهما: قرب مدرسة الشيخ سليمان بن عبد الله العُمَري من بيتهم، حيث كان جارًا لهم، وتربطه به صلة مصاهرة وقربى، فلا يحتاج إلى مَن يوصله إلى المدرسة. وكان ذلك في حدود سنة 1351هـ، ويحدد العبودي أول حادثة تذكره بهذا الكُتَّاب، وهي وفاة الشيخ عبد الله بن محمد بن سَليْم قاضي (بُرَيْدَة)، -رحمه الله-( )، وذلك بعد دخوله الكُتَّاب بشهرين أو ثلاثة. ويصف العبودي تلك الكَتاتيب وطريقتها قائلاً: «الكُتَّاب» يَعتمد على «المطوَّع» الذي هو الأستاذ، وهو فريد فلا يوجد عدة أساتذة، وإنما يساعده كبار الطلبة الذين يَعهد إليهم بتدريس صغارهم. وبطبيعة الحال الطلبة لا يَنصاعون إلى طالب منهم، ولو كان كبيرًا؛ لذلك يكثر اللغط والفوضى، ولكن في ذلك الوقت لا يوجد أفضل من هذه الطريقة. ثم يواصل العبودي قائلاً: وفي سنة 1356هـ فُتحت مدرسة (كُتَّاب) متميِّز في (بُرَيْدَة) فتحها الشيخ محمد بن صالح الوهيبي( )، وأتى بطريقة جديدة في التدريس، وهي جميلة جدًّا، وأذكر أن مِن بين الأشياء التي كان يقولها لنا: «باء يمين» مثل: بسم الله؛ يعني: الباء التي تأتي من جهة اليمين. وهناك باء ثانية تُسَمَّى «باء يسار» مثل: الباء في آخر كلمة باب، و«باء وسط» مثل: الباء الأولى في كلمة الباب... وهكذا. وقد كانت الطريقة السابقة المعروفة ألف باء تاء ثاء... إلخ. وقد الْتَحَقْتُ عنده مع أخي الشيخ سليمان، وهو يَصغرني بخمس سنوات. ثم بعد ذلك انتقل إلى المدرسة الحكومية التي فتحت آنذاك في (بُرَيْدَة) سنة 1356هـ، وكانت واحدة من تسع مدارس اقترحها الشيخ طاهر الدَّبَّاغ بأمر الملك عبد العزيز، -رحمه الله-، فأمر بها سنة 1355هـ، وفتحت هذه المدارس سنة 1356هـ في كل من: وبُرَيْدَة، وعُنَيْزَة. وقد فتحت جميعها عدا مدرستي (الرياض) و(شَقْراء) فتأخرتا. أمَّا (بُرَيْدَة) فأُسندت إدارة مدرستها إلى الأستاذ موسى عَطَّار( ). إلا أن مجيئه قوبل بفتور وعدم تشجيع من الأهالي، وقد تعثرت الدراسة مدة بقائه في الإدارة على نشاطه، كما يقول العُمَري( ). وبعده الشيخ عبد الله بن إبراهيم السليم( ). وبعد إلحاح من الأهالي بقفل المدرسة، شأنهم في ذلك شأن بقية نواحي نجد التي فتحت فيها مدارس، وبعدما تبيَّن للملك عبد العزيز أن هدف المعارضين الخوف على عقائد أبنائهم، أمر -رحمه الله- الشيخ عمر بن محمد بن سَليْم أن يختار مديرًا للمدرسة ومعلمين من تلامذته، فاختار الشيخ عمر -رحمه الله- المربي الكبير الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سَليْم مديرًا للمدرسة، الذي كان لديـه مدرسة خاصة «كُتَّابًا» على مستوى متقدم عن غيرها خاصة في القرآن والحساب والإملاء، فضُمَّت إلى المدرسة السعودية التي أقبـل عليها أبناء البلد لثقتهم واطمئنانهم إلى وضعها الحاضر، فقد كانت تصطفي نخبة من المعلمين المعروفين؛ مثل: الشيخ صالح العُمَري( )، والشيخ إبراهيم بن عبيد بن عبد المحسن( )، والشيخ محمد بن سليمان السليم -رحمه الله-( )، والشيخ إبراهيم بن سليمان العُمَري( )، والشيخ عبد الله الشلاش العبد الله، والشيخ محمد السليمان الخضر( )، والشيخ ناصر السليمان العُمَري( )، والشيخ علي بن صالح النقيدان( ). وكان العبودي ضمن تلك أفواج الطلاب التي التحقت بها. شــيوخــه (1) الشيخ صالح بن إبراهيم الكريديس( ): لقد عاش العبودي في وسط وفي مجتمع علمي مزدهر ينبض بقوة، وكانت الأجواء الدينية والشرعية تطوّقه: المساجد، والحِلَق العلمية، والكتب... كانت محاضن أولية عاش فيها، تعج بطلبة العلم والدارسين. فتلقى عن شيوخه، وأخذ عن أساتذته، وتفتحت مداركه وتفجَّرت مواهبه مبكرًا. قد يوجد الحلم في الشبان والشيب ......فما الحـداثة من حِلمٍ بمانعةٍ وعاش كغيره مرحلة تدرَّج في تعليمه بدءًا من الكَتاتيب، وشيوخه في ذلك من سبق ذكرهم. حتى بلغ سنًّا مناسبة للزج به في أحضان حِلَق العلم، التي وَجَدَتْ في هذا الفتى الصغير نبوغًا وبروزًا يجدر العناية به. لذا لم يكن غريبًا أن يُطلِق شيخه الأول الشيخ صالح بن إبراهيم الكريديس التنبيه الأول على هذا الغلام الحدث، الذي لم يتجاوز عمره آنذاك أربعة عشر عامًا. فقد سأله الأب ناصر العبودي قائلاً: ما رأيك في محمد في القراءة؟ فأجاب الشيخ صالح: «والله محمد يفيدنا». قد نتفق أن هذا الغلام لم يكن لديه تلك الفوائد المهمة، التي من الممكن أن يعنِيها الشيخ ابن كريديس من محمد العبودي الصغير، إلا أن فواتح النبوغ ودلائل الألمعية كانت قد بَدَتْ آياتها، وظهرت علاماتها في محيَّا هذا الغلام النابه. ويعلِّق الشيخ محمد العبودي على ذلك الموقف قائلاً: «بطبيعة الحال أنا لا أفيده، ولكنني كنت أقرأ عليه من كتاب؛ فهو إنما يعبر عن تواضعه بأنني إذا قرأت استفاد ممَّا أقرؤه». ويشير العبودي إلى أن تلك القراءة كانت مبكِّرة، فقد توفي الشيخ صالح سنة 1359هـ، -رحمه الله-، فانقطعت القراءة عليه. وهو يثني على الشيخ صالح بن كريديس، ويقول: إنه من العلماء الأفاضل المتبحرين، ولو كان يوجد وظائف قضاء كثيرة في ذلك الوقت؛ لكان على رأس إحدى تلك الوظائف. وهذه ترجمته( ): 2- الشيخ عمر بن محمد بن سَليْم( ): أحد أعلام هذا القرن ملأ اسمه الآذان، وقلَّ أن يوجد أحد إلا وسمع به، علاَّمة القصيم ومرجعها الأول في زمنه. كان رابع أُسرة آل سَليْم العلمية المشهورة، الذين تعاقبوا على قضاء (بُرَيْدَة)، وهم: 1- الشيخ محمد بن عبد الله بن سَليْم( ). 2- الشيخ محمد بن عمر بن سَليْم( ). 3- الشيخ عبد الله بن محمد بن سَليْم( ). فضلاً عن عشرات من طلبة العلم وأئمة المساجد من هذه الأُسرة المباركة، إلا أنه- بحق- أشهرهم على الإطلاق. وصل الشيخ عمر ببُرَيْدَة إلى قمَّة توهجها العلمي، فقد التف عليه مئات من طلبة العلم، ليس من القصيم فحسب، بل حتى من أطراف المملكة العربية السعودية ونواحيها. وُلِدَ هذا العالم الجليل في (بُرَيْدَة) في 15 رجب سنة 1299هـ، وتربَّى في أحضان والديه، ولازم والده العلاَّمة محمد بن عبد الله بن سَليْم، وكان يحضر مجالس القضاء والتدريس، وحظي بقبول مبكر، فكان الملك عبد العزيز يدعو الشيخ عمر مع العلماء، على الرغم من صغر سنه، فلم يبلغ الثلاثين وقتها، وقد جعل الله في تعليمه بَرَكَة مع قبول وإقبال وهيبة عظيمة لم تمنح إلا لنفر من العلماء الأوائل. تولى قضاء (بُرَيْدَة) بعد وفاة أخيه الشيخ عبد الله بن محمد بن سَليْم سنة 1351هـ. ابتدأ في التدريس بعد وفاة أبيه مباشرة وهو في السابعة والعشرين من عمره، ورزقه الله محبة وقبولاً قلَّ أن يوجد لها نظير، وعاش في حُلَّة سلفية نقيَّة، وقد وهبه الله مهابة وإجلالاً من الناس قاطبة مع ما كان يتحلَّى به من زهد وورع وعبادة وتقوى. يصفه البَسَّام ويقول: «كان إلى علمه الواسع، ونفعه المتعدي إلى العباد، أوقاته في غير الدروس معمورة بالتلاوة والذِّكر والصلاة، فلا يمل من ذلك ولا يفتر، وقد أعطاه الله رغبة في ذلك وجلدًا عليه، وكان يتابع بين الحج والعمرة، في تلك المشاق والأسفار الطويلة والطرق البعيدة الشاقة. وإلى ذلك كان من الكرماء الأجواد، الذين بيوتهم عامرة بالحاشية والأتباع، وخاصة بالضيوف والزائرين بنَفْس طَيِّبَة وخُلُق كريم»( ). ويقول العبودي عنه: «كان الشيخ -رحمه الله- شخصية فذة عظيمة، حتى إنني أذكر أنه إذا مرَّ مع السوق تسارع الناس لرؤيته»( ). وعاش -رحمه الله- في جمع فريد ومزيج خالص، بين العلم الغزير والجاه العريض، والزعامة الشعبية والمحبة القلبية والذِّكر البعيد الطيب، حتى بلغت حلقاته مشهدًا لم تجتمع لعالِم قبله في نجد، ووصلوا إلى نحو خمسمئة طالب. يقول العُمَري: «مرَّت أوقات في المملكة وأكثر قضاتها من تلامذة الشيخ عمر بن سَليْم وعدَّهم. بل إن الملك عبد العزيز قلَّ أن يُعيِّن قاضيًا أو إمامًا إلا ويطلب من الشيخ عمر ملأه بأحد تلامذته»( ). لقبه الشيخ عبد الله بن بليهد بـ «إمام العلماء»، ويقدمه للإمامة وهو أسن منه. وكان بحق أهلاً لتلك المكانة العالية. التحق العلاَّمة العبودي بحلقات الشيخ عمر بن سَليْم، -رحمه الله-، وجلس للطلب، ولكن ذلك كان في أواخر أيامه، فقد انتقل الشيخ عمر إلى رحمة الله سنة 1362هـ، ولكن الشيخ أدرك القراءة عليه في عدد من الكتب والعلوم، وخاصة في التفسير والحديث والفقه وغيرها. 3- الشيخ صالح بن أحمد الخريصي: هو الشيخ صالح بن أحمد بن عبد الله الخريصي (1328- 1415هـ)، مولده ووفاته في (بُرَيْدَة). حفظ القرآن الكريم وجوَّده على يد الشيخ صالح بن إبراهيم بن كريديس، وطلب العلم على عدد من المشايخ؛ منهم: الشيخ محمد بن عبد الله بن حسين آل (أبو الخيل)، والشيخ عبد العزيز بن إبراهيم العَبَّادي، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سَليْم، وأخيه الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله بن سَليْم ولازمه كثيرًا واستفاد منه. تولى في السادسة والعشرين من عمره إمامة أحد أكبر مساجد (بُرَيْدَة) والتدريس فيه، وذلك سنة 1353هـ. ثم تنقل في وظائف القضاء حتى استقرَّ رئيسًا لمحاكم القصيم، إلى أن أُحيل إلى التقاعد سنة 1407هـ، إلى جانب قيامه بالتدريس، فتخرَّج عليه عدد كبير من العلماء. وقد قرأ عليه الشيخ محمد العبودي في عدد من العلوم، كالتفسير والفقه والحديث، وقد أثنى الشيخ كثيرًا على الخريصي، خصوصًا ما منحه الله إياه من عبادة وزهد وتقوى. 4- الشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي: هو الشيخ صالح بن عبد الرحمن بن إبراهيم السكيتـي (نحو 1331- 1404هـ)، مولده ووفاته في (بُرَيْدَة). نشأ نشأة صالحة، وتعلَّمَ مبادئ القراءة والكتابة بكُتَّاب الشيخ سليمان بن عبد الله العُمَري، ثم أخذ العلم عن الشيخ صالح بن إبراهيم بن كريديس، والشيخ عبد العزيز العَبَّادي، ثم أخذ عن مشايخ آل سَليْم: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سَليْم، وأخيه عمر بن محمد بن عبد الله بن سَليْم، وأكثر الأخذ عنه، وغيرهما كما أخذ قليلاً عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأخيه الشيخ عبد اللطيف. وقد عيَّنه شيخه الشيخ عمر بن سَليْم إمامًا ومدرسًا بمسجد الأمير عبد العزيز بن مساعد في شمال (بُرَيْدَة) سنة 1355هـ، فاستمرَّ فيه حتى وفاته، -رحمه الله-، فأمَّ في هذا المسجد نحو خمسين سنة. وتولى القضاء في (المِذْنَب) بضع سنوات، ثم نُقل للتدريس في المعهد العلمي في (بُرَيْدَة)، واستمرَّ فيه إلى أن أُحيل إلى التقاعد. وقد قرأ عليه الشيخ محمد العبودي فترة ليست طويلة في عدد من الكتب. 5- الشيخ عبد الله بن محمد بن حُمَيْد: لم يكن هول الصدمة التي تلقتها (بُرَيْدَة) والعلماء وطلبة العلم فيها سهلاً في فقدهم قطب القصيم وقلبه إمام العلماء الشيخ عمر بن سَليْم، -رحمه الله-. لذا سارع الوجهاء والعلماء والأعيان إلى الملك عبد العزيز، -رحمه الله-، ليطلبوا منه إرسال أحد العلماء المعروفين الكبار، ليخلف حِلَق العلم والتدريس التي كانت تقدر بمئات الطلاَّب. وبالفعل كان اختيارًا مناسبًا يليق بحاجة أولئك وبمكانة البلد، وهو إرسال الفقيه الجليل الشيخ عبد الله بن محمد بن حُمَيْد، -رحمه الله-، الذي يُعدُّ بحق مجددًا للنهضة العلمية في القصيم كما سيأتي بيانه. يصف العبودي شيخه ابن حُمَيْد ويقول: «كانت القراءة على الشيخ عبد الله بن حُمَيْد فتحًا عظيمًا لي من الله سبحانه وتعالى، فقد كانت لـه طريقة خاصة في التعليم مغايرة للطريقة التي يعرفها الناس سابقًا، وهي طريقة «الإمرار». والإمرار أن يُمَرَّ الكتابُ أي: أن يستمر، ويبدأ الإمرار بكلمة (سم)، وينتهي بكلمة (بَرَكَة). وكلمة (بَرَكَة) يقولها الشيخ إذا استمر طالب العلم يقرأ عليه وأراد أن يوقفه قال له: «بَرَكَة) أي: قف. وقد قدم الشيخ عبد الله بن حُمَيْد -رحمه الله- إلى (بُرَيْدَة) أول الأمر مدرسًا، وليس قاضيًا، واستمر ثلاثة أشهر ونَيِّفًا، ثم ذهب إلى (الرياض) وعاد مرَّة ثانية قاضيًا ومدرسًا. وكان يناقش الطلاَّب ويشرح لهم ما أشكل عليهم، ويسألهم في المسائل العلمية، بل لقد استطاع أن يُقدِّم مقرَّرات لطلبة العلم شهرية خاصة، كان ينالني ـ والكلام للعبودي ـ منها اثنا عشر ريالاً، وأعلى شخص كان يأخذ ثمانية عشر ريالاً، وهما اثنان فقط، ثم ينـزلون إلى نحو ريالين. واختصني الشيخ عبد الله بن حُمَيْد -رحمه الله- وجعلني قَيِّمًا على المكتبة، هكذا أي بمعنى: «أمين مكتبة»، فكنت أهيّئ الكتب، وأحضر المراجع المتعلقة بالدرس، وكانت طريقة إحضار الكتب والمراجع في الدرس، والبحث في المسائل المشكلة جديدة على لبعض الناس. لذا كانت طريقة الشيخ ابن حُمَيْد ومنهجه مع طلبة العلم وسيلة جذب مهمة، أعجبت الطلاَّب، وجعلت الدروس أكثر عمقًا وجدية وفهمًا وتحصيلاً. وفتح -رحمه الله- آفاقًا رحبة للنقاش والحوار والمساءلة، ممَّا جعل الطالب يخرج بنتيجة مقنعة في المسائل المطروحة. إضافة إلى دور الشيخ ابن حُمَيْد في المجال القضائي، فقد أوجد تنظيمًا جديدًا للقضاء، وبهر الناس بذكائه الخارق، وذاكرته العجيبة، التي قطعت الطريق على كثير من ذوي النفوس المريضة. فضلاً عن عنايته بالتعليم عمومًا، وبحِلَق العلم خصوصًا، فقد كان الشيخ من أوائل من قام بالتدريس بالمعهد العلمي ببُرَيْدَة، إيمانًا منه برسالة التعليم المهمة، وتشجيعًا لتلميذه مدير المعهد الشيخ محمد العبودي. والشيخ ابن حُمَيْد هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حُمَيْد (1329- 1402هـ)، وُلِدَ في معكال، أحد ضواحي مدينة (الرياض)، وتوفي في (الطائِف)، ودُفِنَ بمكَّة. وقد كفَّ بَصَرُه في طفولته، فحفظ القرآن الكريم ومتون العلم، ثم تلقى العلم على الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن عَتيق، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس، وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ولازمه ملازمة تامَّة وتخرَّج على يديه. تنقَّل -رحمه الله- بين عدد من المواقع القضائية، حتى عُيِّنَ رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى، وعضوًا في هيئة كبار العلماء، ورئيسًا لمجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالَم الإسلامي. وكانت لـه اليد الطُّولى في الإفتاء ونشر العلم والدعوة، حتى صار مرجعًا للمسلمين في كل مكان، مع ما منحه الله من الريادة ورجاحة العقل ونفاذ البصيرة. واكتفى -رحمه الله- في مشاركاته بالتأليف بالرسائل والردود والمقالات الصغيرة. 6- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف( )-رحمه الله-: وهو سماحة الشيخ العلاَّمة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب (1311- 1389هـ)، مولده ووفاته في مدينة (الرياض). دَخَلَ كُتَّاب المقرئ عبد الرحمن ابن مُفيريج، فقرأ القرآن ثم حفظه، وتلقى العلم على يد والده، وفي السنة الرابعة عشرة من عمره، فَقَدَ بَصره. وهو مُفتي البلاد السعودية في وقته ورئيس قضاتها، وتولَّى عددًا من المناصب، وتخرَّج على يديه جَمْعٌ كبير من العلماء. من مصنَّفاته: «الجواب المستقيم»، ورسالة «تحكيم القوانين»، إلى جانب الفتاوى. وقد أفردت كتب لترجمته، -رحمه الله-. زمـــــــلاؤه يرى العلاَّمة العبودي أن مصطلح الزمالة متباين ومختلف، يمرُّ بعدة مراحل؛ فهناك زملاء طفولة، وهؤلاء ـ كما يرى الشيخ ـ لا ينبغي ذكرهم؛ لأن المرء في تلك السن لا يعني شيئًا، لذا فذكرهم قد لا يجد المرء منه كبير فائدة. أمَّا الزملاء الذين يجدر ذكرهم ويحسن التنويه بهم، فهم زملاء الطلب والمدارسة والتعليم، وهم ـ في الغالب ـ يحمل المرء معهم ذكريات جميلة في أعز مراحل عمره، وأغلى ساعات حياته. ومن أبرز من يتذكرهم العلاَّمة العبودي في مراحل الطلب: 1- الأستاذ: علي بن عبد الله الحصيِّن: وهو من مواليد بريدة سنة 1350هـ، درس المبادئ على الشيخ عبد الله بن إبراهيم السليم، ثم عُيِّنَ مدرسًا بالمدرسة الفيصلية، ولازم الشيخ عبد الله بن حميد، -رحمه الله-، وتخرج في كلية الشريعة، وعمل مديرًا للتعليم بالنيابة، ومديرًا لشركة الكهرباء، كان-رحمه الله-شخصية اجتماعية وثقافية عالية، وهو أديب وكاتب مجيد، تعرض لحادث مروري وتوفي سنة 1382هـ، وهو من أخص رفقائه، وأعز أصدقائه. 2- الشيخ سلطان بن سليمان بن سلطان العرفج: ولد-رحمه الله-سنة 1347هـ ببريدة، وطلب العلم على الشيخ عبد الله بن حميد، -رحمه الله-، وتخرج في كلية الشريعة، وعمل في التعليم بالخرج والأحساء، وكان له جهود في افتتاح عدد من المدارس بمنطقة القصيم. توفي -رحمه الله- في 1/7/1413هـ. 3- الشيخ فهد بن عبد العزيز السعيد: ولد في بريدة سنة 1337هـ، تعلم على علماء عصره حتى أدرك علومًا، وأسندت إليه إدارة مدرسة رياض في الخبراء عند افتتاحها سنة 1368هـ، ولزم الإمامة هناك. كان ذا عناية بالكتب واقتنائها ونشرها، وارتبط بصداقة مع رفيقه الشيخ صالح العمري، -رحمه الله-. 4- الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله بن محمد بن سَليْم: ولد في بريدة سنة 1339هـ، وطلب العلم على والده وعمه الشيخ عمر بن سليم والشيخ عبد الله بن حميد، جلس للتدريس في مسجده الذي يؤم فيه، توفي سنة 1367هـ. 5- الشيخ علي بن إبراهيم المشيقح: وُلِدَ في (بُرَيْدَة) عام 1331هـ، دخل في السابعة من عمره كُتَّاب الشيخ صالح بن محمد الصَّقْعَبي، وتعلَّمَ فيه القراءة والكتابة وقراءة القرآن، ثم انتقل إلى كُتَّاب الشيخ عبد العزيز بن صالح بن فَرَج، فحفظ القرآن فيه وهو دون الرابعة عشرة من عمره، وتلمذ لعدد من المشايخ، من أبرزهم: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سَليْم، وأخوه الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله بن سَليْم، ولازمه وانتفع منه، وبخاصة في الفرائض، والشيخ عبد العزيز بن إبراهيم العَبَّادي. وتدرَّج في سلك القضاء إلى أن وصل إلى منصب مساعد رئيس محاكم القصيم، فعمل في القضاء عشرين سنة، كما باشر الإمامة في المسجد والتدريس فيه أكثر من خمسين سنة. وله عدد من المؤلَّفات في نظم كتب العلم وشرحها، ومن أبرزها: «عقد الدراري في كوكب الساري» وهي منظومة شعرية جمع فيها عقيدة أهل السُّنة والجماعة، و«شرح أسماء الله الحُسنى» وهو شرح منظوم في ألف وثلاثمئة وأربعة وأربعين بيتًا. 6- الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي: تلقى العلم على علماء آل سليم ولازمه الشيخ عبد الله بن حميد-رحمه الله-عند قدومه، وكان طالب علم مميز، تقلد عددًا من المسؤوليات في الإشراف الديني في المسجد الحرام، توفي في حادث مروري، -رحمه الله-. 7- الأستاذ صالح بن عبد الله المضيان: ولد في بريدة، وتعلم على المشايخ فيها، مُحِبٌّ للأدب والعلم، وله قصائد جميلة، ومراسلات لطيفة مع الشيخ محمد العبودي أيام الطلب، وانقطع عن الشعر أخيرًا، مقيم الآن في مدينة الدمام، ويعمل في القطاع الخاص. 8- الشيخ علي بن سالم السالم: هو الشيخ علي بن سالم المحمد السالم، ولد في بريدة سنة 1340هـ، طلب العلم على العلماء آنذاك، ورُشِّحَ للقضاء وتولاه، حتى أسند إليه مساعد رئيس محاكم القصيم، وله دروس مقامة في مسجده حتى توفي-رحمه الله-سنة 1397هـ. 9- الشيخ علي بن راشد الرقيبة: عمل في التجارة، وأحب العلم ورافق العلماء، وعُرف برجاحة عقله، وسداد رأيه ووجاهته، وهو من آل سبهين. 10- علي بن عبد العزيز العجاجي: ولد -رحمه الله-سنة 1328هـ، وقرأ على الشيخ عمر بن سليم وشقيقه الشيخ محمد بن عبد العزيز العجاجي، حافظ للقرآن، محب للعلم، ملازم للشيخ عمر بن سليم، تولَّى رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الشيخ عمر، ثم مديرًا لدار التربية الاجتماعية، توفي سنة 1383هـ، -رحمه الله-. 11- عودة بن عبد الله السعوي: أحد طلبة العلم المعروفين، والده الشيخ عبد الله بن عودة السعوي، تولَّى القضاء في عدة أماكن من المملكة، وهو شقيق معالي الشيخ محمد بن عودة، وقد عمل الشيخ عودة في المعهد العلمي مدة وجيزة، ثم تفرغ لأعماله الخاصة. 12- عبد العزيز بن عبد الرحمن العودة: طلب العلم على المشايخ، ثم التحق بالعمل في المعهد العلمي مراقبًا، وهو حفيد مطوع اللسيب المعروف بقصصه وحكاياته ومواقفه الطريفة. 13- الشيخ صالح بن إبراهيم الرسيني: ولد-رحمه الله-سنة 1331هـ في بريدة، وطلب العلم على العلماء فيها، وتولَّى إمامة مسجد ابن سيف، وعمل بالتجارة مع طلبة العلم، وكان ذا سماحة وخلق، توفي سنة 1366هـ. صـــفاته (1) الجِدِّيَّـة: لقد كان أول مستحضر للعلاَّمة العبودي هو مجالسته ومدارسته لأخبار العلماء والفضلاء والأدباء، فضلاً عن حِلَق العلم ومجالس الذكر التي فجَّرت ينابيع النبوغ لديه، ومَهَّدَت الطريق لانطلاقة علْمية ماضية، فكانت همته مبكرة، وطموحاته عالية، وأمانيه عريضة: إذا ما عُدَّ من سَقْطِ المَتاع...... ما للمرء خير في حياة لقد كانت الجديَّة في الحياة والحرص على الوقت واستغلال ساعاته، أجلى صفات العلاَّمة العبودي الذي تنقل في محطات العظماء من: تعليم، ومطالعة كتب، وإدارة، ودعوة، وما تبعها من مسؤوليات. إن شيوع مثل هذه النماذج في الأمَّة يُعدُّ- بلا شك- أمارة بُرْء وصحَّة، وأنها ما زالت في قدرةٍ على إنجاب الرواد النوابغ، تغذوهم رائق النبغ، وترأمهم بأفيائها في أكناف حياة مواتية مجدًا وعزةً، وأخذًا بأسباب التكوُّن والنشأة، لتمتد من بعد إلى مواطن الإبداع والتأصيل (2) الهمَّة: إن علو الهمَّة من أعلى مقامات الريادة، وسُلَّم الوصول إلى كل الأصول، وعندما أدرك العلاَّمة العبودي هذا الأصل المهم، انبرى نحو الحياة يخوض الزمان ممارسة ويعرك الزمان تجاريب، فتنقل في عدة مواطن فما ضنَّ ولا ونى، بل جَدَّ واجتهد، وما لانت له قناة. واستحضر وهو على عتبات طريق حياته الأول ومفترقه أنه بين خيارين: إمَّا أن يعيش بين الحُفَر قد ثنته نفسه عن بلوغ العُلا ورقي السؤدد، وإمَّا أن يرمي بنفسه في البحر ليظفر بالدُّرِّ الذي انطوى في لُجِّه... فاختار الأعلى على الأدنى، وظفر بما في نفسه وطموحه، وصار بعدئذ يَفترع الأصداف، ويُنبط اللؤلؤ، ويصوغ للناس منه عقودًا في ألوانٍ شتى. إن همَّتَه التي جرت معه مجرى الدم، هي ذاتها التي قادته إلى الالتحاق بشيخه الشيخ عبد الله بن حُمَيْد -رحمه الله- مبكرًا، وهو شاب لم يبلغ العشرين بعدُ، فيقترن معه في حِلِّه وترحاله، حضرًا وسفرًا؛ ليشرب من معين العلم، ويرتوي من مناهل العظماء الكبار. والهمَّة التي أَهَّلَتْهُ لتولي مهام إدارة المدرسة الفيصلية، وهو في العشرينات ليعلن في هذا العمر المبكر بدء المسؤولية وتحمل الأمانة. والهمَّة التي دفعته إلى أن يتم ترشيحه لإدارة ثاني معهد علمي في المملكة العربية السعودية في (بُرَيْدَة)، ليتم اصطفاؤه من بين نخبة متميزة حافلة آنذاك من طلبة العلم، بل حتى مِمَّن لهم سَبْقٌ عليه في سن التعليم. والهمَّة هي التي ساقته إلى الجامعة الإسلامية، ليتم تعيينه أول موظف فيها، وتُوكل إليه أصعب المهام وأكلفها، وهي المهام الإدارية والمالية. فنجاحه في محطاته السابقة ومكانته العالية، كانت أسبابًا مقنعة ليتم تنصيبه في هذا الموقع الهام الناشئ. ومن كانت هذه بدايات الهمة لديه، فليس بمستكثر أن يكون قدره بعدئذ شبه أسطورة في تطواف للعالَم أرضًا أرضًا؛ يتلمس تمتمات المسلمين فيها، ويسبر أوضاع الدعوة في ثناياها، ويكشف لمن يبحث عن كل معلومة جميلة مفيدة فيقدمها بلا مَنٍّ ولا أَذَى. والهمَّة التي قادت العلاَّمة العبودي إلى مصاف العالمية، وقائمة العلماء العظماء تأليفًا في الرحلات، ليناهز المطبوع لـه مئة وثلاثة من الكتب في هذا اللون فحسب، ليأتي بما لم يُسبَق إليه في هذا الميدان. وصدق الشافعي: والجد يفتح كل بابٍ مغلقِ .....والجدُّ يدني كل أمرٍ شاسعٍ (3) بذل العلم: العلاَّمة العبودي ربيب علم، فهو يعي عِظَم شأنه، وحاجة الناس إليه، ويدرك ضريبة العلم الكبرى المتمثلة في صيانته وحفظه، ومِنْ ثَمَّ بذله ونشره. لقد سمعت منه حكايات فريدة في مَشَاقِّ مضنية، سلك فيها السبيل للبحث عن كتاب، والعثور على نسخة من وثيقة أو مخطوط. والعلم شرط نيله مرهون بهذه المعادلة الصعبة في الصبر والعطاء، فلا أحسب هيِّنًا أن يمضي المرء عمره وسويعات حياته في اقتناء تلك المخطوطات والوثائق، والتنقيب عنها في مظانها، ثم لا يتردد نهيهة في بذلها لمريدها والمستفيد منها. أجزم أن تلك من ثمار العلم وقيمه التي يجنيها صاحبها، متى ما صدق في عهده مع طريقه. وها هو ذا العبودي يدلل على ذلك بتلك الملفات الخمسة التي أعطاها العلاَّمة حمد الجاسر، -رحمه الله-، عند كتابته لـ «أنساب الأُسر المتحضرة في نجد»، فاعتمد عليه في أُسر القصيم، مع أن العبودي لديه مشروعه الوثائقي الكبير المتمثل في «معجم أُسر أهل القصيم»، الذي سوف يأتي الحديث عنه مفصلاً في آنه. إلا أن هذا شاهد على بذل العلم لمريديه مِنْ قِبَل العبودي، فضلاً عن عشرات ومئات الباحثين والمتخصصين الذين يرجعون إليه في بحوثهم التاريخية والجغرافية والدعوية واللغوية، وليس أدل على بذله من تقديمه تلك المعلومات المهمة عن أوضاع المسلمين في العالَم، مع ما حلَّى به رحلاته من لطائف ومعارف ومعلومات وأخبار عن البلد المُزور؛ ليجعل القارئ يجد فيه حتى ما لم يكن يبحث عنه، فمتعته في سفره لم تحل بينه وبين مدِّ تلك المتعة إلى القارئ، الذي لا يملُّ في إمضاء عدة سويعات في قراءة أكثر من مصنَّف للعبودي في الرحلات. (4) حسن الخُلق: يتمتع الشيخ العبودي بخُلق فِطري، لا يَصطنع ولا يَتكلَّف في تعامله مع الآخرين، لكنه يُنْـزِلُ الناسَ مَنازلهم، ولا يَبْخَس أحدًا منهم حَقَّه، ولا يخلو مجلسه الجاد في غالبيته من طُرفة جميلة، أو نكتة بديعة تُخْرِجُ ابتسامةً لطيفةً على مُحَيَّا الجميع؛ لتبعد عنهم السآمة والملل، تعلو مهابة غريبة اقترنت به منذ الصغر. فقد عُرف عند طلاَّبه مَهِيبًا وقورًا حازمًا، خطواته المتأنية على قدميه تبعث الطلبة على الانضباط، ولكنه بشوش. وهو مِمَّنْ يُحْسن التعاملَ مع المواقف والأحداث بكل رَوِيَّة. حَدَّثَنِي أحدُ الإخوة أن أحد طلبة المعهد العلمي ببُرَيْدَة ـ آنذاك ـ أَوْقَفَهُ أحدُ المعلمينَ للاشتباه في أنه يمارس الغش في الامتحان، وعند تَفَقَّدَ مديرُ المعهد للصفوف وسير الاختبارات، شاهَدَ الشيخ العبودي ـ وهو المدير بالطبع آنذاك ـ هال الطالب الموقَف، فسأل عن أمره، فأحيط بخبره، لكنه ـ أي العبودي ـ حسم هذا الأمر، وقال: إن هذا الطالب أعرفه وأعرف والده، ولا يمكن أن يصدر من مثل هذا غش. وهذا أسلوب ذكي مؤدَّب، أراد منه أن يَستشعِر هذا الطالب قيمة العلم والأدب، وسمعته وأهله وأُسرته. وصدق حَدْسُ الشيخ العبودي؛ فقد صار هذا الطالب أحدَ أبرز طلبة المعهد العلمي، ويعمل حاليًا قاضيًا في محكمة التمييز، ومشهودًا لـه بالفضل والعلم والوقار. وصدق حافظ إبراهيم: علم، وذاك مكارم الأخلاقِ ... والناس هذا حظه مال، وذا بالعلم كان نهاية الإملاقِ.....والمال إن لم تَدَّخِره مُحَصَّنًا تُعليه كان مَطيَّة الإخفاقِ.....والعلم إن لم تكتنفه شمائلُ ما لم يتوَّج رَبُّه بِخَلاَقِ......لا تحسبن العلم ينفع وحده ومن حسن خُلقه ذكراه دومًا لأصدقائه من زملاء الطلب والعمل الأوائل، الذين قد بعدتهم صروف الأيام وتقلباتها وأحوالها، وقد حالت دون اللقاء بهم... إلا أنه دومًا يحرص على لقاء الأحياء منهم، وتجاذب ذكرياته معهم، وكمْ حضرتُ بعض تلك المجالس التي تميط اللثام عن ورقات من صفحات الماضي الجميل. ويذكر الأموات دومًا بخير، ويذكر مناقبهم، خصوصًا مَن كانت لـه بهم رفقة وصحبة خاصة؛ مثل: الأستاذ علي الحصيّن، والشيخ عبد الله البقيشي، رحمهما الله. إضافة إلى زملائه في المعهد؛ مثل: الشيخ علي الضالع، والشيخ علي بن عبد العزيز العجاجي، والشيخ صالح البليهي، كما يذكر الأحياء ومنهم الشيخ محمد بن سبيل، والشيخ عبد الله بن سليمان الربدي، وقبل ذلك يذكر الشيخ عبد الله بن إبراهيم السَّليْم، والشيخ صالح بن سليمان العُمَري، رحمهم الله. كما أنه لا يتردد في ذكر مواقف بعض زملائه من العلماء الأجلاء في الجامعة الإسلامية، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، -رحمه الله-، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب «أضواء البيان»، والشيخ محمد ناصر الدِّين الألباني، والشيخان أبو الحسن الندوي، وحَمَّاد الأنصاري اللذان يذكرهما الشيخ بأنهما من أقلاء أبناء أهل هذا الزمان ورعًا وزهدًا. وكذلك الشيخ أبو بكر الجزائري، والشيخ عبد العزيز بن محمد القويفلي عميد كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الباهلي من مدرسي الجامعة، والأستاذ النبيل عبد الله بن حمود الباحوث مدير الشؤون المالية بالجامعة الإسلامية سابقًا، والشيخ عبد المحسن العَبَّاد، والشيخ عبد القادر شيبة الحمد، وغيرهم. ومن فرائد الشيخ العلاَّمة العبودي أنه مُقِلٌّ إعلاميًا، لا يثقل نفسه كثيرًا بالركض وراء المناسبات، وحضور اللقاءات التي تشغله ـ حسب رأيه ـ عن أموره العلمية المهمة من قراءة وكتابة وتدوين. كما أنه لا يقبل تخصيصه بشيءٍ من التكريم مع أحقيته لذلك، وكم عانيت في سبيل إقناع الشيخ ـ حفظه الله ـ بأمرين مهمين: أولهما حضوره الثلاثية المقامة في دارتنا وتكريمه فيها، وثانيهما التقديم لهذا الكتاب والإلحاح عليه بالموافقة . العبودي والوظفة العبودي قيِّم مكتبة بريدة قد تكون فترة قيام الشيخ العبودي بعمل قيِّم مكتبة بريدة أخصب فترات عمره، فقد دخل هذا المعترك وهو بعد في عقد الشباب وعنفوانه وهمَّته وشغفه وحرصه. وكانت تهيئة جميلة لهذا الشاب أن وافق ميله العلمي، الذي كان يقوده إلى حلق الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- يوميًّا مع ميدانه العملي، أي: يرتبط بعلاقة أخرى تزيد من الصلة التي كان مصدرها الطلب والتتلمذ، ويشير العلاَّمة العبودي في بعض ذكرياته عن مكتبة بريدة إلى أن نجدًا لم يكن فيها آنذاك مكتبات علمية قائمة بالمعنى المتعارف عليه اليوم. إنما كان هناك كتب متداولة أو محفوظة في بعض رفوف المساجد، وغالبًا ما تكون وقفية ترد من بعض الأثرياء ومحبي العلم الذين يقفون بعض تلك الكتب على طلبة العلم والمشايخ، وكان هناك كتب متداولة؛ مثل: كتاب عدة الصابرين، ورياض الصالحين، وغيرهما. إلا أن الحركة العلمية والتهافت الهائل الذي شهدته بريدة إبَّان وجود المشايخ آل سليم وغيرهـم أدت إلى ضرورة التفكير في أهمية إيجاد المراجع المهمة والكتب الضرورية لطلبة العلم. وكان لإهداء كتب الشيخ محمد بن عبد العزيز العجاجي- رحمه الله- إلى جامع بريدة مدعًى قويٌّ دافعٌ للشيخ عمر بن سليم -رحمه الله- إلى إيجاد مكتبة في الجامع. وعندما حصل خلل في جامع بريدة سنة 1359هـ، وطلب الشيخ عمر بن سليم- رحمه الله- من الملك عبد العزيز- رحمه الله- إصلاح الجامع مع بناء سكن للإمام والمؤذن وجميع ما يلزم حسَب نظر الشيخ عمر بن سليم وتوجيهه. تم بالفعل البدء بذلك وكان الذي يباشر البناء والإشراف عليه أحد الرجال المشهورين بهذا الأمر، ويعرف بأنه أكبر المعلمين آنذاك ويسمى "الستاد" وهو علي بن محمد الحامد. إلا أن الشيخ عمر -رحمه الله- رأى أن يضاف إلى المبنى رواق حول المسجد وكانت العادة قد جرت في مساجد بريدة أن يكون المسجد في جهة القبلة ويكون إلى الشرق ما يعرف بـ "السرحة" وهو فناء مكشوف. فكان أن أقيم في الجهة الشمالية الشرقية بناء للمكتبة في الطابق الثاني. وبنيت المكتبة التي كان يرغب الشيخ عمر أن يجمع فيها شتى الكتب الموقوفة على طلبة العلم إلى جانب ما تيسر جمعه من الكتب الأخرى. إلا أن المسجد استغرق بناؤه نحو سنتين، ولم يكتمل إلا في نحو 1361هـ، وقد مرض الشيخ مرضه الطويل، ثم توفي في شهر ذي الحجة سنة 1362هـ، قبل أن تتكون المكتبة، وإنما جُهز مكانها. وعندما قدم الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد- رحمه الله- ليخلف الشيخ عمر بن سليم في حلقات التعليم والتدريس والإفتاء سنة 1363هـ وكان- رحمه الله- شخصية فذة في علمه وقدره ووجاهته، فسعى إلى أن يتم أمنية الشيخ عمر بن سليم في المكتبة، فباشر في أول خطوة نحو ذلك حيث عيّن الشيخ محمد العبودي قيَّمًا على المكتبة، وهو ما يعرف اليوم بـ "أمين المكتبة"، والتي كانت نواتها مجموعتين: الأولى كانت كتبًا للشيخين محمد وعلي ابني عبد العزيز العجاجي( ). والأخرى للشيخ عبد الله بن محمد الروَّاف ( )- رحمهما الله، وقد أحضر كتبه ابنه سليمان بن عبد الله الروَّاف الذي يصفه الشيخ العبودي بأنه من أبرز رجالات بريدة ثقافة وعقلاً، وكان ذا عناية فائقة بالكتب واقتنائها. يقول العبودي عندما عينني الشيخ عبد الله بن حميد- رحمه الله- قرَّرَ لي راتبًا مقداره 40 ريالاً في الشهر. وكان من مبادرات الشيخ ابن حميد أن أرسل إلى الملك عبد العزيز الرغبة في مواصلة فكرة الشيخ عمر بن سليم في إقامة المكتبة وتهيئتها بالكتب، وأن تكون ملتقًى لطلبة العلم، فأرسل الملك عبد العزيز مبلغًا ماليًّا قدره ثلاثة آلاف ريال فرنسي، ثم زاد بعد ذلك، ولم يكن هنالك ريال سعودي معروف. كما قرر الشيخ ابن حميد تقديم شاي للذين يحضرون ويتباحثون من طلبة العلم وكان مشرفًا على هذه الأمور فهد بن مزيد الخطاف. وكان هناك حماسة ورغبة من أولئك الطلبة الذين كان الشيخ ابن حميد يحوطهم بعنايته وتشجيعه في العلم والتعليم، فعلموا أن لدى الشيخ فوزان السابق( )- رحمه الله- بعض الكتب المحفوظة لدى أسرة المشيقح الذين كانوا وكلاء له خلال إقامته في مصر آنذاك، فطلبوا تزويدهم بالكتب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز المشيقح( ) ورغب في توجيه الطلب إلى الشيخ فوزان السابق نفسه لتصدر الموافقة منه وأنه سوف يؤيد ذلك بكتاب للشيخ فوزان. يقول الشيخ محمد العبودي: أعددت خطابًا موجهًا من الشيخ عبد الله بن حميد إلى الشيخ فوزان مبديًا الرغبة في إهدائه الكتب إلى مكتبة الجامع، فرحب الشيخ فوزان- رحمه الله- بالفكرة، ووافق على أن تحال جميعًا إلى المكتبة. كما أن أسرة المزيني( ) وهي إحدى أسر بريدة التي كانت مقيمة بالكويت، وكانوا أهل ثراء ومال، وقد مرُّوا ببريدة وهم في طريقهم إلى الحج، فعرض عليهم الشيخ محمد العبودي وطلب منهم التبرع للمكتبة. لكنهم طلبوا مقابلة الشيخ ابن حميد وتم لهم ذلك وعلى إثرها تبرعوا بمبلغ مالي كبير في ذلك الوقت، وتم من خلاله شراء سجاد للمكتبة وبعض الحاجيات وبقي مبلغ منها مع ما تم توفيره من المكرمة الملكية. يقول الشيخ محمد العبودي: أمرني الشيخ ابن حميد أن أذهب إلى مكة، وأشتري بتلك المبالغ المتوافرة كتبًا للمكتبة، فذهبت إلى هناك، والتقيت شيخ الكتبية عبد الفتاح فدى وقد قارنت بين أسعاره وأسعار الآخرين فوجدته أرخصهم سعرًا، وقلت له: يا شيخ عبد الفتاح أريد أن أشتري منك كتبًا لمكتبة خيرية وَقْفِيَّة ليست للبيع أو التجارة، ولكن بشرط أن تكسب مكسبًا ضئيلاً لا تطلب الزيادة عليه فَتَفَهَّمَ الموضوع وضحك، وأعطاني أسعار الكتب المهمة الكبيرة، ومنها (لسان العرب)، و(شرح الإحياء) للسيد مرتضى الزبيدي( ) صاحب شرح القاموس، ومنها (شرح الشمائل) عشرة مجلدات الشمائل النبوية، ومنها (المبسوط) للسرخسي في فقه الحنفية، وكتب كبيرة من الأمهات ثمانية مجلدات وعشرة مجلدات، فاشتريناها منه ومن غيره. ثم حملناها بسيارة لوري، لأن ذلك الوقت لم يكن هناك سيارات ركوب صغيرة ولا طائرات ولا طرق برية معبدة، وإنما طرق ترابية، وأحضرناها إلى بريدة. ولقد شعرت بسعادة كبيرة، بل إن شيخي الشيخ عبد الله عندما قدمت له القائمة، وقلت له هذا الذي أمرتموني به، سُر سرورًا عظيمًا إضافة إلى استبشار وفرح الباحثين وفرحهم، فقد كان سرورهم عظيمًا. إلا أنني أذكر زميلَيَّ وأعدُّهما شقيقَيَّ في المكتبة، وحتى في طلب العلم، وهما الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي -رحمه الله- وكان يساعدنا، وكان طالب علم شبه متفرغ، وكذلك الأستاذ علي بن عبد الله الحصيّن -رحمه الله- كان صديقًا شخصيًّا لي، بل كان أصدق الأصدقاء لي، محبًّا للاطلاع ومعنا دائمًا في المكتبة. وهذان الشخصان الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي والأستاذ علي بن عبد الله الحصين كانا معي في المكتبة ليسا موظفين لهم راتب، لأنه لا يوجد راتب إلا لي فقط 40 ريالاً في الشهر وكان ذلك في عام 1364هـ، وكان مبلغًا كبيرًا. ثم إن الشيخ عبد الله بن محمد حميد بعد فترة طلب من الملك عبد العزيز- رحمه الله- وقال له: إن لدينا أناسًا من طلبة العلم ليس لهم موارد رزق، وكانت البلاد بعد الحرب العالمية الثانية تعاني الضيق، كما هو الحال في كثير من البلاد في العالم، ونرغب في إمدادهم ببعض المخصصات والرواتب. فالملك عبد العزيز -رحمه الله- استجاب، وأرسل للشيخ مبلغًا من المال بالريال الفرنسي، فوزعه الشيخ على الإخوان الذين يطلبون العلم، وكان أكثرهم شخصين دفع لهما؛ هما: الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، والشيخ عبد الله بن رشيد الفرج كانت إعانتهما الشهرية 12 ريالاً. أما أنا فكنت من المتوسطين، ولولا صلتي بالشيخ لكان راتبي أقل، وأعطيت ستة ريالين في الشهر وأذكر أن أحد الإخوة الصغار من طلبة العلم، لسببٍ وإن كان سنة كبيرًا، كان راتبه ريالين في الشهر، وبعد ذلك قطع هذا الراتب عنه لسببٍ من الأسباب؛ منها كونه لم يواظب على طلب العلم. وقد أمر الملك عبد العزيز -رحمه الله- بأن تستمر المكرمة الملكية للإخوان، وكنت أفرح بالريالات الستة الشهرية أكثر مما أفرح به الآن من مرتب أتقاضاه مع كونه كبيرًا. ثم يواصل الشيخ محمد العبودي، ويقول في حديثه وذكرياته عن المكتبة: استمر عملي في المكتبة، وازدهرت بحمد الله، وعندما عُيِّنْتُ مدرسًا أول مرة في مدرسة بريدة طلبت من الشيخ عبد الله بن حميد، وقلت له: إنني لا أستطيع فتح المكتبة والإشراف عليها، ولكم أن تعينوا أي شخص آخر، فقال الشيخ: ابقَ أنت في المكتبة، واختر أحد الأخوان من طلبة العلم ليساعدك، وطلب -رحمه الله- من الشيخ عبد الله البقيشي مساعدتي في فتح المكتبة، وبقي مدة طويلة في ذلك وله جهود في مساعدة الآخرين على البحث. فمثلاً إذا أراد شخص أن يبحث عن مسألة فقهية فإنه لا بُدَّ أن يكون في المكتبة من يهديه إلى الكتب والمراجع التي فيها هذه المسألة، وهذا من عملنا. صحيح أننا كنا نعاني بعض المسائل الهامشية، ومع ذلك إنني والأستاذ علي بن عبد الله الحصيّن كنا نحرص على الكتب الأدبية والتاريخية، وكان شيخنا عبد الله بن حميد يشجعنا على ذلك، لأنه يصح أن يقال عنه: إنه أديب متذوق للأدب والأخبار والنوادر، وكان حريصًا على جمع كتب التاريخ والأدب. ولكن هذه الكتب التاريخية والأدبية لا تروق لبعض الذين يحضرون للمكتبة من طلبة العلم، فكان بعضهم يقول عنها: ما علم لا ينفع، وجهل لا يضر. ونحن نقول: إن الجهل يضر بلا شك، والعلم ينفع أيضًا، ولكن إذا كان المقصود بذلك أن هذه ليست بها فائدة، فهذا غير صحيح، وكنا في بعض الأحيان نجعلها في دولاب ونغلق عليها لئلا يصلوا إليها فيشوشوا علينا وإلا نحن نعرف أن شيخنا قد ربانا أن نحترم الكتب الدينية والأدبية ونعرف مقدارها. ثم صار الأستاذ على الحصيّن فترة يفتحها، ومرة يُعهد إلى شيخنا صالح بن عبد الرحمن السكيتي؛ لأنه كان في ذلك الوقت قاضيًا، وحضر فترة إلى بريدة في إجازة، فأمره الشيخ بأن يفتحها، وكنت لا أزال أحتفظ بمفتاحها معي. ولكني كنت أول الأمر أتقاضى راتبًا لأنني أواظب عليها، ثم تركته اكتفاءً براتب المدرسة عام 1368هـ. وبعد ذلك سلمت المفتاح للشيخ، واعتذرت نهائيًّا، ثم توالى عليها الإخوان وكان أولهم الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، وربما يكون تاريخها معروفًا بعد ذلك. ثم يتحدث العبودي عن الأجواء العلمية التي كانت تغشى المكتبة، والطريقة التي كان يتعامل بها الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- مع طلبة العلم في حلقاته، وكيف تم تفعيل دور المكتبة، والقائمين عليها من الباحثين، فيقول: كانت دروس الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- تبدأ من صلاة الفجر إلى حدود الساعة العاشرة تقريبًا ضحًى، والمقصود من ذلك الساعة العاشرة في وقت الربيع؛ أي: في اعتدال الوقت، فكان إذا جرى البحث في مسألة في الدرس، وهذه المسألة تحتاج إلى بحث أو غير واضحة، أو سأل أحد الطلبة سؤالاً لم يكن عند الشيخ ما يجيبه عنه إجابة كاملة، يقول لي عندما كانت المكتبة معي: يا فلان هات الكتاب الفلاني حتى ننظر فيه، فأنا أصعد إلى المكتبة وأترك حلقة الدرس، وأبحث عن المسألة، وأحضرها للشيخ وهو مستمر، فإذا توقع أنني قد عدت قال: يا فلان، هات ما ذكره العالم الفلاني الذي هو يذكر الكتب كأن يقول: هات تفسير ابن كثير إذا كانت المسألة تتعلق بالتفسير، أو تفسير ابن جرير، أو يقول: هات (المغني)، و(الشرح الكبير)؛ إذا كانت مسألة فقهية خلافية، أو يقول: هات المنتهى (منتهى الإيرادات) أو (كشاف القناع)؛ إذا كانت المسألة فقهية مذهبية على المذهب، أو يقول: هات (القاموس) أو (لسان العرب)؛ إذا كانت مسألة لغوية، أو يقول: هات (تهذيب الخلاصة لتهذيب الكمال في أسماء الرجال) الذي هو ليس التهذيب نفسه، وإنما (خلاصة تهذيب الكمال) هو الذي كان بين أيدينا، وكنا نستعمله. وكذلك كتب الحديث فعندما كنا نقرأ على الشيخ، ويأتي ذكر أحد الأحاديث في الدرس، وقيل: إنه في (صحيح مسلم)؛ فالشيخ يريد أن يتأكد يقول: هات (صحيح مسلم)؛ يقول: نريد أن نبحث عن هذا الحديث، فكنا نحضره، ثم بعد ذلك كان يأمر زميلي الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي عندما تركت المكتبة أو عندما أكون غائبًا، وكذلك كان في آخر الأمر يأمر الأستاذ علي بن عبد الله الحصيّن بإحضارها؛ أي: إنه كان يستفيد من الرجوع إلى المكتبة حتى في أثناء الدرس. وكان الدرس المعتمد في طريقته، طريقة متميزة في القصيم، بل ربما يكون في نجد كلها، أما الطريقة المتبعة في الدروس عمومًا، فهي أن أحد طلبة العلم يقرأ ويستمر في القراءة، والشيخ يستمر، ويسمع الآخرين، ثم إذا حصلت مسألة أو لفظة تحتاج إلى الشرح شرحها الشيخ، ولكنهم لا يرجعون إلى الكتب؛ لأن الشيخ يشرح بما يستطيع علمه، لكن الشيخ ابن حميد كان يأمر بالرجوع إلى الكتب حتى لا تبقى هذه المسألة غامضة في أذهان الطلبة، وحتى في ذهنه هو؛ لأنه يقول: إن الرجوع إلى الكتب فيه فائدة كبيرة لأنه يفيدنا ويفيد الطلبة. هذا أيضًا من فوائد المكتبة. ومن فوائد المكتبة أنها صارت تضم طلبة العلم. نحن نعرف أن الناس وبخاصة في ليالي الشتاء الطويلة ليس عندهم شيء يستطيعون أن يقضوا فيه الوقت الواقع بعد صلاة العشاء إلى وقت النوم لأنه ليس هنالك لا إذاعات ولا تلفازات ولا يستمع الناس إلى شيء ولا في صحف، وكان طلبة العلم يستفيدون ويحضرون إلى المكتبة، فالكبير يفيد الصغير، والصغير يسأل الكبير، والكتب بين أيديهم؛ لأنه ليس فيها مناولات ولا طلبات، وإنما يستطيع كل طالب علم أن يأخذ الكتاب رأسًا ويفتحه، ويعلم ما فيه، لكن بعضهم لا يعرف أين توجد المسألة أو لا يعرف أين الكتاب الذي يبحث المسألة التي يريدها، فنحن يسألنا نحن الموجودين وكما قلت أنا: ويكون معنا في الغالب علي بن عبد الله الحصيّن أو الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي، رحمهما الله. وهكذا عاش العبودي هذة المرحلة المهمة من عمرة بين ردهات الكتب، وعبق العلم، فصاغت يداه بذرة صالحة ونواة خير ويمن لتلكم المكتبة الأم التي عُدَّت أولَ مكتبة عامة في المملكة العربية السعودية، و التي على إثرها تم ضمها إلى الإدارة العامة للمكتبات في وزارة المعارف سنة 1379هـ. وفي تاريخ 29/5/1422هـ صدرت الموافقة السامية الكريمة على تسمية مكتبة بريدة العامة باسم مكتبة الملك سعود ببريدة، وذلك عقب انتقال المكتبة إلى مبناها الجديد الذي يعد تحفة معمارية جميلة تقديرًا لجهود الملك سعود - رحمة الله - في شراء أرض لها وعمارتها بجوار الجامع أنذاك. وقد تم افتتاح ذلكم المبنى من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام في11/7/1423هـ إبَّان زيارته لمنطقة القصيم بحضور صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة القصيم وصاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز ماجد بن عبد العزيز نائب أمير منطقة القصيم وجمع حاشد من الأمراء والعلماء والمسؤولين. العبودي معلمًا ومديرًا لقد كانت الحركة التعليمية في بدايتها في (بُرَيْدَة)، وكانت هنالك همة نحو الإسراع في نشر التعليم، ولزم حينئذ المبادرة بالتوسع في افتتاح المدارس، واستقطاب المعلمين حتى تتم الكفاية اللازمة نحو هذه النقلة المهمة، وكان من نتائج هذا الأمر أن تم اللجوء إلى الطلاَّب أنفسهم، ليتم اختيارهم معلمين في تلك المدارس، خصوصًا مَن ظهرت بوادر نجاحه وقدرته على التدريس. وبالفعل لم يلبث العبودي طويلاً حتى تم اختياره في 23 من شهر ذي الحجة سنة 1363هـ مدرِّسًا بالمدرسة الفيصلية، على وظيفة تحمل اسم «وكيل معلم»، واستمر فيها فترة وجيزة لا تتجاوز أربعة أشهر، حيث حلَّ في تلك السنة العلاَّمة الشيخ عبد الله بن حُمَيْد -رحمه الله- على (بُرَيْدَة) مدرِّسًا خلفًا للشيخ عمر بن محمد بن سَليْم، الذي توفي في ذي الحجة سنة 1362هـ، وقد التحق بحلقات الشيخ ابن حُمَيْد، وصار من أخص طلابه. وقد طلب الشيخ عبد الله بن حُمَيْد -رحمه الله- من الشيخ العبودي مرافقته إلى (الرياض)، لبعض المهمات التي يُنتدب إليها، لكنه اعتذر بسبب ارتباطه بالتدريس في المدرسة الفيصلية، إلا أن الشيخ ابن حُمَيْد ألزمه وتمت مخاطبة معتمدية المعارف، ورافق ابن حُمَيْد فيما يشبه الإعارة، وصار على أثرها قيِّمًا لمكتبة (بُرَيْدَة)، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وخلال هذه المدة توثَّقت علاقة الشيخ العبودي بشيخه ابن حُمَيْد، وأصبح أقرب تلاميذه الذين يقرؤون عليه في كل وقت، حتى في أوقات الشيخ الخاصة. وفي سنة 1368هـ تم افتتاح مدرسة أخرى ببُرَيْدَة، فقد تضاعف عدد الطلاَّب خلال مدة وجيزة، ممَّا استدعى النظر في التوسُّع بالتعليم. وكان لهمَّة رائد التعليم في القصيم الشيخ صالح بن سليمان العُمَري دور عظيم في هذا النجاح السريع الباهر، الذي كانت خطواته تتسارع، فطلب من الشيخ محمد بن مانع فتح مدرسة أخرى، فوافق على ذلك، وقام بفتح المدرسة المنصورية، ورشَّح لها الشيخ محمد العبودي لإدارتها مع عدد من المعلمين النابهين؛ مثل: الأستاذ محمد بن صالح الوهيبي، وبعد أشهر عين فيها الشيخ عبد الكريم الفدا( )، والأستاذ عبد الله بن سليمان الربدي، وصالح بن إبراهيم بن سيف( ). تولى الشيخ محمد العبودي إدارة المدرسة فقام بها خير قيام، ليصبح الرجل الثالث من روَّاد التعليم بمنطقة القصيم بعد الشيخ عبد الله بن إبراهيم السَّليْم، والشيخ صالح بن سليمان العُمَري؛ رحمهما الله. وصارت المدرسة الفيصلية إحدى أبرز المدارس التي خرَّجت عددًا كبيرًا من طلبة العلم، مِمَّنْ كان لهم إسهاماتهم في خدمة وطنهم في موقع المسؤولية. العبودي والمعهد العلمي لم يكن حلم الملك عبد العزيز -رحمه الله- يقف عند حد كيان سياسي تطوقه حراسات أمنية وعسكرية، ولكن أمنية التوحيد لهذه البلاد ولَمّ شتاتها كانا يدفعان إلى إحلالها موقعها اللائق بها في سُرَّة العالم وقلبه. لذا فما إن أخذ الملك عبد العزيز يلحظ بناظريه إلى أطراف هذه الجزيرة العربية الممتدة التي دانت له حتى بدأت خطوات البناء ولبنات العمل الجاد تأخذ مواقعها. والتعليم كان حجر الأساس لأمة تنشد الريادة، وتسعى للسيادة متحملة أعباء الأمانة والمسؤولية لقبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، لذلك لم يكن غريبًا أن تتسارع خطواته نحو التعليم، ولما تهدأ بعد طلقات الرصاص وتجاوزات الخصوم. وشهدت المملكة العربية السعودية انطلاقات التعليم في شتى اتجاهات البلاد مستنفرة إمكانياتها وقدراتها المحدودة آنذاك ومستعينة بأهل السبق في ذلك من الأشقاء والأصدقاء. وكان هنالك في وسمان هناك استفسار في الوقت ذاته استشعارًا لرسالة هذه البلاد الكبرى نحو هذا الدين ونشره وبيانه، وبذل العلم الصحيح والسنة النقية للعطشى من منتظريها. وكان ذلك من توفيق الله وتهيئته جهود الشيخ العلاَّمة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ -رحمه الله-، الذي وقف بصدق وإخلاص في تلك المرحلة الحاسمة المهمة من تاريخ البناء، فاهتم بالتعليم الشرعي في شتى مستوياته وطبقاته، وكانت البلاد آنذاك تقوم بعلمها على حلق المساجد، وبعض الجهود الفردية في التعليم التي انطوت تحت منظومة التعليم النظامي. ثم كانت فكرة المعاهد العلمية الشرعية التي كانت نواة للتعليم الشرعي النظامي، ثم العالي وقصد منها أن تتضمن تهيئة لطلبة العلم الصغار حتى يتلقوا المبادئ الأولية من العلوم الشرعية واللغوية وما يعرف بعلوم الآلة من أسس نظامية ومرحلية دقيقة. وكان لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- دور في هذه الفكرة وتهيئتها وتطبيقها بعد الموافقة عليها من الملك عبد العزيز -رحمه الله- الذي أيَّد وناصر الفكرة وعاضدها، يساعده في ذلك شقيقة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ؛ يقول العبودي: ونعم الرجل هو. وبالفعل تم افتتاح المعهد العلمي في الرياض سنة 1370هـ للهجرة وقام بالإشراف على افتتاحه واختيار المدرسين له سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، وكانت بداية مبشرة بفتح علمي جديد حين عُنِيَ -رحمه الله- باختيار المدرسين فيه من ذوي العلم المعروفين ورجال القضاء وغيرهم، مما استهوى الطلاب إلى التوارد عليه والدراسة فيه. وحين رأى سماحته هذا النجاح الباهر للمعهد العلمي في الرياض، وعظيم الإقبال عليه، وسرعة ثماره المباركة في انتشار العلم الشرعي والعناية به، قاده ذلك إلى التوسع في تلكم التجربة التي بان نجاحُها؛ فكان اختيار بريدة لتكون المحطة الثانية للمعاهد العلمية؛ حيث كانت ساحة علمية نشيطة يتولى الزمام فيها سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- وكان هناك جمع غفير من طلبة العلم الذين سوف يسارعون إلى الالتحاق بالمعهد فور افتتاحه. وإذا كان ثمة عناية بقرار افتتاح المعهد فإن اختيار مدير له يحمل مواصفات المدير الناجح والشخصية العلمية والقدرة العلمية والمكانة الاجتماعية لا يقل أهمية عنه. وكان الشيخ محمد العبودي يحظى بقبول تام إضافة إلى همَّته الشبابية العالية، فتدريسه في المدرسة الفيصلية، ثم إدارته لثاني مدرسة في بريدة، وهي المنصورية، ثم علاقته العلمية والخاصة مع الشيخ عبد الله بن حميد كل ذلك جعل منه شخصًا مناسبًا للقيام بهذه المهمة التي تحتاج إلى بناء وقدرات. وكان لدى الشيخ العبودي أولويات في بدء عمله بالمعهد يرى أنها من أعظم سبل نجاحه يوجزها بما يلي، فيقول: رأينا أنه لا بُدَّ من أن يكون طلبة العلم الذين هم المشايخ الكبار في (بريدة) مدرسين بالمعهد، وهم أربعة في ذلك الوقت: الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله، والشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي، رحمه الله، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي( )، رحمه الله، والشيخ علي بن إبراهيم المشيقح. وكذلك أيضًا سماحة شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد مدرسًا غير متفرغ في المعهد بسبب مشاغله العملية والعلمية، فقد كان هدفنا أن ينضم طلبة العلم إلى المعهد، سواء الذين يَدرسون على سماحة الشيخ، أو الذين يَدرسون على الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، وهكذا كان، فأتيت للمشايخ الأربعة بخطابات مفتوحة موقعة من الشيخ محمد، وتحدثت معهم، فاستجاب الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي -رحمه الله- استجابة فورية، وقال: "موافق". لا. أما الشيخ صالح البليهي، فقال: "أنا قد استخرت وجزمت، ولا يمكن أن أتردد في أمرٍ أستطيع معه أن أُدرِّس ما أعرفه من العلم لطلبة العلم في بلدي، هذه هي أُمنية كل طالب علم، ولا يمكن أن أتردد". أمَّا الإخوة الباقون فقد ترددوا مثل الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، وكما نعلم في ذلك الوقت كان قاضي "الأسياح"، ولم يكن في "بريده" وقد شغله القضاء. والشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي كان قاضي (المذنب)، ولكنه بعد ذلك بشهور التحق بالمعهد، وصار مدرسًا فيه، واستمر حتى تقاعد. وبالنسبة إلى الشيخ علي بن إبراهيم المشيقح فقد قال: "إنني أود، ويَسرني أن أكون مدرسًا في المعهد، ولكن أنا الآن عندي مشروعات". فقد كان ينسخ الكتب، وقال: "لا أريد أن يؤثر هذا العمل فيما أقوم به من نسخ الكتب واقتنائها… إلخ". أما شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد فقد باشر التدريس في المعهد مدة إلى أن استقرَّ الإخوة طلبة العلم في المعهد حسب المتفق عليه، ثم بعد ذلك عاد متفرغًا للقضاء والتدريس في المسجد. ثم يسرد الشيخ محمد العبودي المعاناة الأولى لافتتاح المعهد والصعوبات التي لاقته في أثناء ذلك، فيقول: لقد كان مكان المعهد واختيار موقعه مشكلة يجب أن تُحل، وكان الناس في ذلك الوقت سواء كانوا مدرسين أو موظفين أو طلابًا يأتون إلى المعهد سيرًا على الأقدام، فلم يكن عند الناس في ذلك الوقت سيارات خاصة، كما هي الحال الآن. وكما نعلم أن مدينة (بريدة) مدينة ممتدة منذ عهد قديم، فإذا جعلنا المعهد في الشمال؛ فسيكون صعبًا على أهل الجنوب أن يصلوا إليه، والعكس بالعكس، وكنت أريد أن يكون المعهد في موقع صالح للدراسة؛ لا يشغل الطلاب فيه شيء، فلا يكون بين المساكن، ولا يكون قريبًا من مواقع الضوضاء والإزعاج، وأن يكون له مساحة كافية وكبيرة. وهذا كله لا يتيسر في داخل البلد، إلا إذا فرضنا أننا سنشتري عشرين بيتًا، أو ما شابه ذلك، ثم نهدمها ونهدم ما حولها! وهذا شيء غير ممكن في ذلك الوقت، ولذلك رأيت أن يكون في موقعه الحالي الذي يقع إلى الشرق من مدينة (بريدة) القديمة، ولم يكن هناك مساكن حول أرض المعهد في ذلك الوقت. في أول الأمر لم نبدأ في هذا المكان، بل تم استئجار بيت لجاسر بن عبد الكريم الجاسر لأقل من سنة، طلبنا من آل مشيقح( ) أن يبنوا بناءً على شكل معهد بالطين؛ ففي ذلك الوقت لايوجد إلا الطين، فبنوا البناء وبقينا فيه أربع سنين. ولكننا في عام 1376هـ بدأنا بالبناء بالمسلح على الأرض الحكومية التي حصلت عليها من أمير القصيم آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز بن مساعد وانتقلنا إليه عام 1377هـ. وكانت الأرض التي فيها المعهد الآن خلاء في ذلك الوقت، وكان بعض كبار الجماعة من أهل (بريدة) قد رأوا أنه ينبغي أن تُترك هذه الأرض دون أن يكون عليها أي بناء، لتكون متسعًا لأصحاب المواشي والإبل الذين يبيعون ويشترون فيها؛ لأن مكان البيع والشراء كان الجَرْدَة (جردة بريدة)، وكانت تضيق بالناس، ولكن نحن قلنا لهم: لا يمكن أن يبقى هذا إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أن يبقى هذا سوقًا للإبل. ثم عارضنا بعض الناس (شخص من الأشخاص)، قال: إن لديه إقطاعًا اشتراه من أحد المواطنين يقع في جزء صغير من أرض المعهد، وقد اقتطع المعهد جزءًا من هذا الإقطاع المملوك حسب الدعوى. وفي ظني أن هذا الشخص ليس لديه حق فقلت له: إذا كان لك حق فيمكن تعويضك، ولكنه لم يرض إلا أن نجلس معه للقضاء ونسمع دعواه، فجلست معه. وكانت هذه أول مرة جلست فيها أو دخلت فيها المحكمة مقاضيًا أو مقاضى (أي مستدعى للقضاء)، وهي المرة الوحيدة التي لم أجلس قبلها ولا بعدها لخصومة، وكانت من أجل تخليص أرض المعهد، والحمد لله المعهد بني في أرضه ولا يزال إلى الآن، وعرف الناس أن هذا موقع جيد، وأنه مناسب. هـذا بالنسبة إلى الموقع، أما بالنسبة إلى المدرسين بعد ذلك فقد حضر إلينا مدرسون يستحقون الذِّكر منهم: معالي الشيخ الجليل الأستاذ محمد بن عبد الله السبيِّل( ) إمام الحَرَم المكي وعضو هيئة كبار العلماء، وكـان مدرسًا، والشيـخ علي بن سليمان الضالع( )-رحمه الله- درَّس عندنا مدة، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز الخضيري( ) الذي كان تولى القضاء في بعض البلدان بعالية القصيم، ودرَّس عندنا أيضًا، وغير هؤلاء. كما أنني قد اخترتُ لوظيفة مساعد مدير المعهد الأستاذ عبد الله بن سليمان الربدي( )، وشغل هذه الوظيفة إلى جانب التدريس. أما عدد الطلاب في ذلك الوقت فيشير الشيخ العبودي إلى أن المعهد قد شهد إقبالاً رائعًا، وذلك بسبب الثقة الكبيرة التي حظي بها من قبل الأهالي وطلبة العلم وكان لالتحاق المشايخ الذين سبق ذكرهم دور في ترسيخ تلك الثقة وقوة الإقبال عليه. العبودي والجامعة الإسلامية تُعَدُّ الجامعةُ الإسلامية إحدى هدايا العلم الكبرى التي منحتها هذه البلاد المباركة إلى أبناء المسلمين في العالم؛ فقد كانت نواة مهمة للتعليم الشرعي الصحيح المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت فكرتها تطمح إلى تقديم هذا المنهج العلمي السلفي النقيِّ إلى عموم المسلمين، على المستوى، وقد حمّل زمام هذه الفكرة المباركة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله، فبادر إلى تأييدها والنهوض بفكرتها ودعمها ومساندتها، وعهد الملك سعود إلى سماحة المفتي لاستكمال إجراءات افتتاحها. يتحدث الشيخ محمد العبودي عن الجامعة وبداياتها وولادتها التي شهد ووقف على لحظاتها الأولى منذ أن تم تعيينه فيها سنة 1380هـ، فيقول: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- في ذلك الوقت كان يشغل وظيفة المفتي الأكبر في المملكة العربية السعودية ورئيس القضاة واختار أشخاصًا للجامعة الإسلامية وأنا اختارني مديرًا للجامعة قبل غيري، لأن الفكرة الأولى أن يكون هناك مدير ونائب رئيس لأن الرئيس؛ هو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، فاستدعى الشيخ محمد بن علي الحركان( ) الذي صار وزير العدل بعد ذلك، وحضر إلى الرياض، وكنت في ذلك الوقت ضيفًا على الخاصة الملكية خاصة الملك سعود، رحمه الله، وأنزلوني في فندق اليمامة قرابة خمسين يومًا، فالشيخ محمد بن علي الحركان جاء من جدة، وبحث الموضوع مع الشيخ محمد بن إبراهيم ومعي أيضًا المفترض أني من أهل الدراية لأني كنت في ذلك الوقت مدير المعهد العلمي في بريدة، وقد مضى على تعييني في المعهد سبع سنوات قبل ان أعين في الجامعة التي لم تكن في ذلك الوقت إلاََّ فكرة، فالمفترض أنني حصلت على خبرة أو شيء من المعرفة بتسيير المعاهد والكليات. وبعد مدة اعتذر الشيخ محمد الحركان ليس عن إدارتها بل اعتذر عن ترك عمله، لأن هناك ناسًا من أهل جدة كتبوا إلى الملك سعود، لأنه في ذلك الوقت كان قاضيًا في محكمة جدة، وأهل جدة كانوا مرتاحين منه جدًّا، لأن الرجل كان نزيهًا وقويًّا، ولا يبالي، فكتبوا رسائل كثيرة يطلبون من الملك سعود، ومن الشيخ محمد بن إبراهيم أن يبقى قاضيًا، وألاَّ ينتقل من عندهم. فتغلبت هذه النظرة عنده وبقي؛ لأن المسألة كلها راجعة إلى نظر ولي الأمر الملك سعود والمرجع الذي كلفه الملك سعود -رحمه الله- وهو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي الأكبر، وهو رئيس الجامعة بعد ذلك رأى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم أن يكون الشيخ عبد العزيز ابن باز هو نائب الرئيس وفي التشكيل الذي وضعناه أن تكون وظيفتي وظيفة الأمين العام للجامعة، فيكون في الجامعة من الموظفين الموجودين فيها موظفان اثنان رئيسان، نائب الرئيس الشيخ عبد العزيز ابن باز، والأمين العام، وهي وظيفتي أنا في ذلك الوقت ليس في الجامعة من الوظائف الرئيسية سوى هاتين الوظيفتين. عندما فتحت الجامعة الإسلامية كان عمادها في أول الأمر بعض الطلبة الموجودين في الرياض الذين يدرسون في كليات الرياض، وبعضهم في المدينة، وبعضهم آثر أن يأتي إلى المدينة، ثم نحن أعددنا منحًا لسبعة وثلاثين بلدًا في أول مرحلة ونأتي بالطلاب من هذه المنح. فلاحظنا أن بعض الذين أُرسلوا من قبل بعض الجمعيات الإسلامية أو من قبل السفارات السعودية أو من قبل الهيئات الإسلامية في الخارج ليسوا على المستوى المطلوب وبعضهم يقدم شهادات لا ندري عن مستواها، وكانت في أذهاننا في ذلك الوقت أن إفريقية هي التي يجب أن يُعْتَنَى بها أكثر من غيرها؛ لأن الاستعمار والمنصرين قد ركزوا في إفريقية ليس من أجل تنصير غير المسلمين أي الوثنيين، بل من أجل صد المسلمين عن الإسلام، ولذلك رأينا أنه لا بُدَّ من أن نركز على إفريقية ولكن لم تكن لدينا معلومات كافية عن إفريقية: لا عن الجمعيات الإسلامية، ولا عن الجهات التي هي أكثر حاجة من غيرها، ولا على الجهات الموثوقة التي ترسل الطلبة، فكانت النتيجة أن صدر الأمر بأن يذهب من الجامعة وفد من ثلاثة أشخاص أكون أنا رئيسه، ومعي اثنان كان الملك فيصل -رحمه الله- الذي كان في ذلك الوقت نائب الملك عندما سافرنا إلى إفريقية، وكان الملك سعود موجودًا في سنة 1384هـ، وعندما عدنا كان الملك فيصل قد أصبح ملكًا في عام 1384هـ، لكن لما ذهبنا إلى إفريقية أعطانا الملك فيصل بعض النقود لتوزيعها على الجهات الإسلامية العاملة، يَعْنِي أصحاب المدارس والجمعيات الذين يقومون بعمل دعوة إسلامية خاصة. أعطانا إياها بدون جدول، أذكر أنه -رحمه الله- عندما ذهبت لأودعه قلت له: يا جلالة الملك، البلاد التي سنذهب إليها ليس فيها سفارات سعودية؛ لأن آخر سفارة في الصومال، وليس بعدها شيء، ونحن محتاجون إلى توجيهاتكم، فقال لي: في كلمة جامعة عجيبة، وقال: راقب الله في أقوالك وأفعالك تنجح، الحقيقة أنني حينما تأملت هذا الكلام وجدت أنه لا مزيد عليه؛ لأن الذي يراقب الله في أقواله وأفعاله سينجح ليس معنى هذا أنه سينجح في الحصول على الأجر فقط بل ينجح في الحصول على الأجر وينجح عند الناس. ذهبنا إلى هناك وفوجئنا بأن المعلومات التي عندنا عن الإخوة المسلمين، وعن جمعياتهم، وعن مساجدهم، وعن طلبة العلم عندهم، وعن الظروف المحيطة بالدعوة فيها ظروف مشجعة وهي قليلة، وفيها ظروف مؤسفة، وهي كثيرة، والمعلومات التي عندنا نكاد نقول: إنها تساوي صفرًا، ولذلك قيدت جميع ما رأيته، وكان هذا نواة أول كتبي في الرحلات، وقد أصدرته، ولم أكن أظن أنه سيكون كتابًا، ولكن لما اجتمع عندي، وأشار عَلَيَّ بعض الإخوة أن أصدره، وقد أصدرته بعنوان: "في إفريقية الخضراء مشاهدات وانطباعات وأحاديث عن الإسلام والمسلمين"، وقد استقبل هذا الكتاب استقبالاً حافلاً شَجَّعَنِي استقبال القُرَّاء له ليس في بلادنا فقط، ولكن في البلدان الأخرى. أذكر أنه ترجم منه مقادير كبيرة إلى اللغة التركية ترجمها الأستاذ صالح أوزجان، ونشرها في مجلة الهلال التي كانت تصدر في تركيا، وترجم في الهند إلى عدة لغات، وقررت الأكاديمية العسكرية العربية في القاهرة تدريسه على الطلاب. وعندما قلت للأستاذ اللواء في ذلك الوقت محمود شيت خطاب، وكان من المدرسين فيها، وهو عراقيًّا قلت له: ماذا رأيتم في الكتاب وأنا لا أرى أنه يستحق أن يقرر؟ وقال: نحن جلسنا، وقلنا: لا بُدَّ من أن يدرس الطلبة أحوال إخوانهم المسلمين، ولكن لا بُدَّ أن نقرر عليهم كتابًا كتبه مسلم، ولم نجد إلا كتابك فقررناه، قلت: على كل حال لا أظن أنه يصل إلى هذا المستوى الذي أنتم أحللتموه فيه. عندما رجعنا من إفريقية كتبت تقريرًا رفعناه إلى الملك عن طريق الجامعة وسماحة الوالد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- ومنه إلى الملك فيصل؛ لأن الملك فيصل؛ في ذلك الوقت قد أصبح ملكًا، وكان فيه مقترحات من بينها إرسال خمسين داعية عينت أماكنهم في ذلك الوقت ومبالغ من المال، وكذلك تخصيص منح لأبناء المسلمين، من الأقطار التي زرناها؛ فكانت النتيجة أن وافق الملك فيصل -رحمه الله- على جميع هذه المقترحات، واعتمد خمسين وظيفة داعية، لا تزال موجودة من ذلك الوقت، ولله الحمد، وتوسعت، وكانت نواة لوظائف الدعاة التي اتسعت بعد ذلك، واستقبلنا في الجامعة الإسلامية الطلبة من تلك الأقطار. العبودي والأمانة العامة للدعوة الإسلامية عُنِيَتْ قيادةُ المملكة العربية السعودية بالهم الإسلامي منذ نشأتها، وكانت هذه البلاد ولا زالت محطَّ أنظار المسلمين ومقصدهم؛ لما تحمله من مكانة دينية خاصة في نفوسهم؛ حيث تتجه إليها أنظارهم كل يوم خمس مرات في صلواتهم، وكان للقوة والمكانة الاقتصادية للمملكة العربية السعودية أثر آخر في احتلال مكانة أخرى مضافة إلى مكانتها الدينية. ولم تغفل القيادة الهم الإسلامي الكبير الذي تحمله نحو قضايا المسلمين ومعاناتهم وهمومهم في شتى الأصقاع، وكان من اللازم وضع الإستراتيجيات الضرورية للعمل الإسلامي بشقيه المادي والدعوي، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء الهيئة العليا للدعوة الإسلامية برئاسة سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز لِتُعْنَى بهذا الجانب المهم، فترسم السياسات، وترعى المساعدات وَفْقَ منهج راسخ نقي، وعهد بالأمانة العامة فيها إلى الشيخ محمد العبودي الذي كان على دراية كبرى بالعمل الإسلامي منذ رحلاته المبكرة إلى القارة الإفريقية التي تحتضن أكثر الدول الإسلامية وأشدها حاجة إلى الدعم المعنوي والمادي، مع ما يتمتع به الشيخ العبودي من حس دعوي، وجانب تعليمي، وقدرة على سبر أحوال المسلمين، ومعرفة احتياجاتهم، وكان تعيين الشيخ في سنة 1394هـ. وبقيت الهيئة العليا في أعمالها ومنهجها المرسوم حتى تم تشكيل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي يرأسه أيضًا صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز.
0 | 0 | 305450
خدمات المحتوى
|
تقييم
|
|